وأما الأعمال والأصول الكلية فلا يختلفون بشيء منها، كالأمر بتوحيد الله عز وجل وعبادته وحده لا شريك له، والأمر بإخلاص الدين له، والأمر بالعدل وغير ذلك، وكذلك النهي عن الفواحش وعن الظلم وعن الشرك،
[ ص: 531 ] والقول على الله عز وجل بلا علم كما ذكر الله تعالى ذلك في قوله تعالى:
قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق .وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون [الأعراف: 33]. كما ذكر المأمور به في قوله تعالى:
قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين [الأعراف: 29].
وكما قد ذكر أصول الشرائع في آخر الأنعام وفي بني إسرائيل وغير ذلك، وهذه الأمور مما اتفقت
[ ص: 532 ] عليها شرائع الأنبياء، وأكثر المسلمين على أنها لا تقبل النسخ، ولا يجوز أن يبعث نبي بخلافها، ولا ينسخ منها شيء، وأما الذين يجوزون على الله تعالى أن يأمر بكل شيء وينهى عن كل شيء، فيجوزون النسخ في هذه وغيرها، وبكل حال فلم يقع في شيء منها نسخ، وإنما جاء النسخ في أمر يسير من فروع الشرائع كما قال تعالى:
لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا [المائدة: 48]. كما شرع السبت لأهل التوراة، وشرع لأهل القرآن
[ ص: 533 ] الجمعة، وكما حرم عليهم كل ذي ظفر وشحم الثرب، والكليتين، وأحل لأهل القرآن جميع الطيبات، وإنما حرم عليهم الخبائث، ورفع الله تعالى عمن اتبعه من أهل الكتاب آصارهم والأغلال التي كانت عليهم:
فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون [الأعراف: 157]. وكذلك الأدلة العقلية الخبرية، والأدلة العقلية على حسن بعض الأشياء، وقبح بعضها عند من يقول بذلك، إذا كانت حقا فإنها لا تناقض شيئا مما جاءت به الرسل، لا
محمدا صلى الله عليه وسلم ولا غيره، ولا يجوز أن يخبر الرسل بشيء يعلم بالعقل الصريح امتناعه، بل لا يجوز أن يخبروا بما لا يعلم بالعقل ثبوته. فيخبرون بمحارات العقول، لا بمحالات العقول، ويجوز أن يكون في بعض ما يخبرون به ما يعجز عقل بعض الناس
[ ص: 534 ] عن فهمه وتصوره، فإن العقول متفاوتة.
وفي عظمة الرب تعالى وملكوته وآياته ومخلوقاته ما لا يستطيع الناس أو كثير منهم أن يروه في الدنيا، أو يسمعوا صوته، أو يتصوروه، ويكفيك أن موسى عليه السلام مع عظم قدره لما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا، فلما أفاق قال:
سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين [الأعراف: 143]. ولكن كثير من الناس يظن بعقله أشياء ممتنعة، ولا تكون ممتنعة، كما يظن أشياء جائزة أو واجبة ولا تكون كذلك.
ولهذا عامة الطوائف بالعقليات توجب هذا، أو تجوز ما يقول الآخر إنه ممتنع، وكلاهما يزعم أن العقل دل على ذلك، فلهذا كان
من الناس من يظن أن المعقولات الصريحة تخالف ما جاء به القرآن والحديث الصحيح، من إثبات معاني أسماء الله وصفاته كما يقول ذلك المعطلة الجهمية ومن يشاركهم في بعض ذلك، فالذين نفوا علو الله على خلقه ونحو ذلك هم من هؤلاء، والرازي في هذا الكتاب قد
[ ص: 535 ] يستوعب ما يحتج به طوائف النفاة من الحجج العقلية، وقد تقدم بيان فساد ذلك جميعه من وجوه متعددة، تبين أن جميع ما يعتمدون عليه من الحجج التي يسمونها براهين عقلية التي عارضوا بها ما جاء به القرآن والحديث – باطلة.