فصل
قال
الرازي: "واحتج السلف على صحة مذهبهم بوجوه: الأول: بقوله تعالى:
وما يعلم تأويله إلا الله [آل عمران: 7]. والذي يدل على أن الوقف واجب وجوه".
فيقال: لا ريب أن كثيرا من السلف كانوا يرون الوقف عند قوله تعالى:
وما يعلم تأويله إلا الله [آل عمران: 7]. ويقول بعضهم: انتهى علم الراسخين إلى أن يقولوا: آمنا به. فمن هؤلاء
[ ص: 548 ] من يقول هذا، ومنهم من يقول أيضا: إن الراسخين يعلمون التأويل، والتأويل الذي نفي عن الراسخين غير الذي أثبت، لكن ما عرف عن أحد من السلف أنه جعل هذا التأويل الذي لا يعلمه إلا الله أن تنفي دلالة الآيات والأحاديث عما دلت عليه من الصفات، وإثبات تأويلات تخالف ما دلت عليه، والقول بأن تلك التأويلات لا يعلمها إلا الله، بل لم يعرف عن أحد من السلف أنه كان لفظ التأويل عنده صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى المرجوح، وإذا لم يكن هذا المعنى هو معنى لفظ التأويل عندهم، فإذا قالوا: لا يعلم تأويله إلا الله، لم يكن هذا مرادهم كما حكاه هذا عنهم، بل قد تقدم بعض أقوال السلف الذين قالوا: ما يعلم تأويله إلا الله، أن التأويل عندهم هو التأويل في قوله تعالى:
هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله [الأعراف: 53]. وقوله تعالى:
بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله [يونس: 39]. ومنه كيفية صفات الرب تعالى كما قالوا: "الاستواء معلوم والكيف مجهول" أو غير ذلك مما قالوه،
[ ص: 549 ] وما علم أن أحدا منهم قال إن فسرت النصوص عما تدل عليه إلى معنى مرجوح من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله، بل هذه التأويلات عندهم باطلة مردودة، يعلم الله بطلانها، لا يقال إنها حق لا يعلمه إلا الله، بل نقول فيها ما قاله الله تعالى في الآلهة والأوثان وشفاعتها، قال عز وجل:
ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون [يونس: 18]. وهذه التأويلات من جنس تأويلات القرامطة والملاحدة، لا يقال فيها: لا يعلمها إلا الله، بل هي تأويلات باطلة يعلم الله أنها باطلة، وقد بين لعباده أنها باطلة، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع، والمقصود أن قول من قال: إنه لا يعلم تأويله إلا الله، يريد به السلف أن نصوص الصفات لا يفهم منها شيء، بل يقطع أن مدلولها غير مراد، والمراد لا يعلمه إلا الله، فهذا القول لم يعرف عن أحد من السلف، بل أقوالهم صريحة بخلافه، والله تعالى أعلم.