فأما الأول فقالوا: لو كان العالم محدثا لكان محدثه فاعلا مختارا، وهو محال لوجهين:
أحدهما: أن ذلك الاختيار إما أن يكون لغرض أو لا يكون، فإن كان لغرض فهو باطل لأمرين:
أحدهما: أنه يجب أن يكون وجود ذلك الغرض أولى به من عدمه، وإلا لم يكن غرضا، وإذا كان وجوده أولى به، كان مستكملا بخلق العالم وهو محال.
فإن قيل: هو فعله لا لغرض يعود إليه، بل لغرض يعود إلى غيره، وهو الإحسان إلى الغير، وهذا يدفع المحذور.
قيل: الإحسان إلى الغير، إما أن يكون بالنسبة إلى ذاته أولى من تركه، وإما أن لا يكون، فإن كان مساويا لم يكن غرضا، وإن لم يكن مساويا عاد المحذور.
الثاني: أن من فعل لغرض غيره، كان الفاعل دون
[ ص: 478 ] المفعول، كالخادم والمخدوم، ومن الممتنع أن يكون غير الله أشرف منه، فيمتنع أن يفعل لغرض غيره.
وإن قيل: إنه فعل العالم لا لغرض، كان عابثا، والعبث على الحكيم محال؛ ولأنه يكون ترجيحا لأحد طرفي الممكن على الآخر من غير مرجح، وهو محال.
الوجه الثاني: أنه لو فعل بالاختيار فإما أن يجوز منه فعل القبيح أو لا يجوز. وإن شئت قلت: فإما أن يجوز عليه فعل كل شيء، وإما أن يكون متنزها عن بعض الأفعال. فإن قيل: إنه يجوز أن يصدر منه فعل القبيح، لم يؤمن من تصديق المتنبئين الكذابين بالمعجزات، ولم يؤمن أيضا الخبر المخالف لمخبره، فإن الكذب وتصديق الكاذب قبيح، وتجويز ذلك يبطل النبوات وأخبار المعاد، وهذا تبطل بهما الملل.
وإن قيل: إنه لا يفعل القبيح، وهذا قبيح.
الثاني: أن العالم مملوء طافح بالشرور والآفات، وأنواع الألم والعقوبات، والقول بالغرض باطل، وإذا بطل القسمان بطل القول بالفاعل المختار.
وأما الاحتجاج بها على نفي الصانع مطلقا فأن يقال: إن
[ ص: 479 ] كان موجبا بذاته لزم قدم المفعولات، وهو خلاف المحسوس؛ لأن الموجب لفعل المحدث الذي هو علة تامة، إن كان موجودا في الأزل لزم قدم المحدثات، وإن لم يكن موجودا فصدوره بعد أن لم يكن يحتاج إلى سبب حادث، والقول فيه كالقول في غيره من الحوادث، فيمتنع حدوث محدث عن موجب بذاته، وإن كان فاعلا باختياره عادت الحجة المتقدمة.