وقد
ظهر فساد حجتهم وتناقضهم فيها من وجوه:
أحدها: أن الذي نفوه به، يلزمهم مثله، فيما أثبتوه من موجود قديم واجب، وهو الفلك المشهود.
الثاني: أنهم قصدوا تنزيهه عن تجدد كمال له بفعله، أو عن عبث، فجعلوه أعظم نقصا من المستكمل العابث، ومن المعلوم أنه إذا قدر فاعل يستكمل بفعله، كان خيرا من المعدوم، فإن الفلك أو غير الفلك إذا قدر ذلك فيه لم يشك عاقل أنه خير من المعدوم، فكان نفيهم له، الذي فروا إليه شرا من نفي بعض الأمور، التي ظنوها كمالا. فتدبر هذا أيضا. وكذلك إذا قدر موجود كامل، يفعل فعلا لغير غرض له، وقيل: إنه عابث، فهو أكمل من العدم، الذي ليس بشيء أصلا، فإن الفاعل لغير
[ ص: 488 ] غرض، بمنزلة الساكن الذي لا يفعل، وهذا يقال فيه: إنه جامد، ويقال: في ذلك إنه عابث، والجامد والعابث خير من العدم المحض، لا سيما إذا كان متصفا بسائر صفات الكمال.
الثالث: ما تركب من هذين الوجهين، وهو أنهم مع التزام المحالات التي زعموا أنهم فروا منها، ومع التزام ما هو شر مما فروا منه، لم يستفيدوا بذلك إلا جحود الصانع -تعالى وتقدس رب العالمين- الذي هو أصل كل باطل، وكفر وكذب وتناقض وشر في الوجود، كما أن الإيمان به أصل كل حق وهدى، وصدق واستقامة وخير في الوجود.
وهكذا يقال لهم في فعل القبائح، وعدم فعلها من وجوه:
أحدها: أن هذا لازم لكم، فيما تصفونه بأنه واجب لذاته قديم، وهذا لا بد منه على كل تقدير، ولا مندوحة عنه.
الثاني: أن يقال تجويز تصديق الكاذب أو الكذب، أكثر ما يقال فيه إنه يستلزم بطلان الرسالة، والخبر عن الثواب والعقاب، وهذا المحذور أخف بكثير من محذور نفي الصانع. فهل يسوغ في العقل، أن نجحد الصانع وخلقه للعالم، لأن ثبوت ذلك يستلزم بطلان النبوة والوعد والوعيد؟! فإنه يقال لذلك: وأنت إذا نفيته بطلت النبوة والوعد والوعيد أيضا، وبطل أضعاف هذا من أمور الديانات، فبتقدير أن يكون هذا لازما على التقديرين، لا يجوز أن يحتج به على نفي أحدهما، مع كثرة المحاذير على هذا التقدير؛ بل غاية ما يقال: إذا قدر أنه لازم فليس بمحذور، ومعلوم أن الإقرار بالصانع تعالى، مع الكفر بالرسل والمعاد،
[ ص: 489 ] أقل كفرا من جحود الصانع، كما أن الإقرار بالصانع مستكملا أو عابثا، أقل كفرا من جحوده، فالتزام زيادة الحجة والتعطيل بلا حجة، من أبطل الباطل.
وهكذا ما احتجوا به على جحود فعل القبيح -كتكليف المحال، ووجود الشرور- فإنه يقال فيه هذان الوجهان:
أحدهما: لزوم ذلك أيضا، مع ما يصفونه بالقدم، ووجوب الوجود.
الثاني: أن ذلك إنما يستلزم نقصا، وذلك أهون من العدم. فإذا كانت الحجة إنما تستلزم في الوجود، لم يجز أن يلتزم عدمه بلا حجة؛ بل كان إثبات الوجود الناقص لا بد منه على كل تقدير.