ومثل من احتج على بطلان الخالق، بأن ذلك يستلزم بطلان النبوة والمعاد، مثل من بلغه أن الله تعالى بعث رسولا، وأن قوما كذبوه فتأذى بذلك، فجاء إليه فقتله، وقال إنما قتلته لئلا يتأذى بالتكذيب، وهؤلاء أعدموا الخالق، لئلا تكذبه رسله على زعمهم.
وكذلك مثل من أراد أن ينصر ملكا له مملكة عظيمة، ولكن
[ ص: 490 ] بعض رعيته عصوه، فعمد إلى ذلك الملك فقتله، أو عزله عن الملك بالكلية، وقال إنما فعلت ذلك إجلالا لقدره، لئلا يعصيه بعض رعيته.
ويحكى عن بعض الحمقى؛ أنه رأى ذبابا وقع على وجه مخدومه؛ فأخذ المداس فضرب به وجه مخدومه، ليطير عنه الذباب.
ومثل من كان له ميراث من أبيه، غصب بعض الناس شيئا منه، فقصد بعض الحكام أو بعض الشهود دفع الشر عن ذلك الوارث، ودفع تضرره بالغصب، فأثبت أنه ليس ابنه، وأنه لا يستحق شيئا من الميراث، وقال: إنه بهذا الطريق امتنع أن يكون مغصوبا، وزال تضرره بالغصب.
أو رجل كان له عقار عظيم، من مساكن وبساتين وغيرها، وله منافع عظيمة وحقوق كثيرة، قد غصبه بعض الناس بعضها، وهو متألم لذلك، فقام قوم من الحكام والشهود والأعوان، ليزيلوا عنه، فسعوا في أخذ ذلك العقار منه بالكلية، وإخراجه من ملكه ويده بلا فائدة حصلت له أصلا، وقالوا هذا العقار إذا كان له، فلا بد أن يؤخذ منه هذا الجزء اليسير فيتألم،
[ ص: 491 ] فأعدموه إياه كله بلا فائدة حصلت له.
ومثل من قال: أنا لا أصلي لأني إذا صليت أقصر في ذكر الله، وعبادته وطاعته، التي ينبغي أن أفعلها في الصلاة، فأنا أترك الصلاة بالكلية، خوفا من ترك بعض واجباتها.
وكذلك من قال: لا أزكي أصلا، لأني إذا زكيت، فقد يأخذ زكاة بعض مالي من لا يستحقها، فيحرم المستحقين لها، فأنا أحرم المستحقين جميع الزكاة، لئلا يحرموا بعضها بالمزاحمة.
ومثل من ارتكب الفواحش المحرمة، وترك النكاح الحلال، قال: لأني إذا نكحت المرأة فقد أطؤها وهي حائض أو في الدبر، فاستحل الفواحش من التلوط وغيره حذرا من هذا الذنب.
أو من أخذ يسرق أموال الناس، خوفا من تجارة أو صناعة، يكون ظلمه فيه أقل من ظلم السرقة.
أو من أقام ببلاد الحرب معاونا لهم على قتال المسلمين، خوفا من أن يهاجر إلى بلاد المسلمين، فيقصر بجهاد أهل الحرب. والأمثال في هذا كثيرة جدا.
ومن العجب أن المتكلمين المناظرين لهؤلاء، وأمثالهم من أهل الكفر، إذا أوردوا سؤلا من جنس هذا السؤال، أن
[ ص: 492 ] يدخلوا معهم في جوابه وحله، وقد لا يكون المجيب متمكنا من ذلك علما وبيانا، ولا ينقطع بذلك الخصم، ولا يهتدي لنقص قوى إدراكه أو سوء قصده، أو لاحتياج تحقيق ذلك إلى مقدمات متعددة وزمان طويل، وتقرير لتلك المقدمات بجواب ما ترد بها من ممانعة ومعارضة. فيتركوا أن يبدؤوهم من أول الأمر ببيان فساد هذه الحجة، وبيان تناقضهم، وأن قائلها يلزمه إذا قال بها أعظم مما أنكره، فإذا تبين له فسادها وللمتكلمين معه: حصل دفع هذا الشر وبطلان هذا القول وهذه الحجة، وهو المقصود في هذا المقام، ثم بيان الحق وتكميله مقام آخر.
ومثال ذلك مثال من قدم العدو بلاده، فأخذ يبني ويغرس، ويعمر ما ينتفع به لنفسه، ويدفع به عدوه، قبل دفع العدو عن بلاده، فجعل كلما عمر شيئا خربه العدو، وهو غير متمكن من العمارة الثانية، فإذا كان قادرا من أول الأمر على دفع العدو كان ذلك أولى، وإن حصل له في ذلك نوع مشقة، فهي أخف من كل مشقة يلتزمها مع بقاء العدو ببلاده. والحجج الباطلة هي عدو الحق، فهي عدو في قلب الناظر بنفسه لطلب الحق، وقلبه كبلاده، وهي أيضا عدو له مع المناظر الذي يناظره، وسواء كان معاونا أو مغالبا؛ ولهذا ناظر
إبراهيم الخليل بمثل هذه المناظرة المتضمنة قياس الأولى، وإلزام الخصم على قوله، أعظم مما ألزمه هو على قول خصمه، كما قال:
[ ص: 493 ] وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون [الأنعام: 81-82] قال تعالى:
وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء [الأنعام: 83] قال
nindex.php?page=showalam&ids=15944زيد بن أسلم وغيره: بالعلم. فالعلم بحسن المحاجة مما يرفع الله تعالى به الدرجات، وكذلك قال تعالى فيما أمر أن يخاطب به أهل الكتاب
قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل [المائدة 59-60].