وقد ذكرنا ما ذكره
الخطابي من
كراهة طريقة الأعراض، وأنها بدعة محظورة، وقد قال في أوائل كتابه «شعار الدين»: «القول فيما يجب من معرفة الله سبحانه وتعالى: أول ما يجب على من يلزمه الخطاب، أن يعلم أن للعالم بأسره صانعا، وأنه هو الله الواحد لا شريك له، وقد جرى كثير من عوام المسلمين في هذا على عادة النشوء وحكم الولادة، فكان إيمانهم إيمان تلقين وتربية، وذلك أنهم يولدون في دار الإسلام، ويتربون في حجور المسلمين، وينشأون في بلادهم، فيتلقنون كلمة التوحيد من الآباء والأمهات، ويسمعون الأذان من المؤذنين، ويتلقون
[ ص: 502 ] القرآن من الأئمة في الصلوات، ومن المعلمين في المكاتب، فيستحكم حكم الدين في قلوبهم، ويعتقدون حسنه وصحته تقليدا، فينتفعون به ويقتصرون عليه. ودين الإسلام إذ كان موثوقا بصحته، مشهودا له بالفضل على كل دين سواه، فقد يجب على كل متدين به، أن يكون مصدر اعتقاده إياه عن نظر واستدلال، ليكون العلم به أصح، والوثيقة به أشد، وقد نصب الله تعالى الأدلة وأزاح بها العلة، ووسع من وجوهها، وكثر من عددها، فهي على اختلاف مراتبها في الوضوح والغموض، معروضة للاستدلال بها، والاستشهاد بمواضعها، فلا أحد يعقل من آحاد الناس، إلا وله في جليها مستدل، وفي واضحها مستشهد، وإن كان نزل فهمه عن دقيقها ولطيفها، فالواجب على كل من الناس أن يبذل وسعه فيه، ويبلغ جهده في دركه، فإن الله تعالى يقول:
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين [العنكبوت: 69].
فمن أوضح الدلالة على معرفة الله سبحانه وتعالى، على أن للخلق صانعا ومدبرا، أن الإنسان إذا فكر في نفسه رآها مدبرة، وعلى أحوال شتى مصرفة، كان نطفة ثم علقة، ثم مضغة؛ ثم عظاما، ولحما، فيعلم أنه لا ينقل نفسه من حال النقص إلى حال الكمال، لأنه لا يقدر أن يحدث في الحال الأفضل، التي هي حال كمال عقله، وبلوغ أشده عضوا من الأعضاء، ولا يمكنه أن
[ ص: 503 ] يزيد من جوارحه جارحة، فيدله ذلك على أنه في وقت نقصه، وأوان ضعفه عن فعل ذلك أعجز؛ وقد يرى نفسه شابا، ثم كهلا ثم شيخا، وهو لم ينقل نفسه من حال الشباب والقوة إلى حال الشيخوخة والهرم، ولا اختاره لنفسه، ولا في وسعه أن يزايل حال المشيب ويراجع قوة الشباب، فيعلم بذلك أنه ليس هو الذي فعل هذه الأفعال بنفسه؛ وأن له صانعا صنعه، وناقلا نقله من حال إلى حال، ولولا ذلك لم تتبدل أحواله بلا ناقل ولا مدبر.
فإن قيل: إن النطفة قديمة، وفيها قوة قابلة للاغتذاء، فإذا وقعت في الرحم، والطبائع معتدلة، قبلت بالقوة التي فيها الاغتذاء والتربية، حتى تستوي جارحة، ويتم بها خلقه.
قيل: لو كانت النطفة قديمة، كما زعمتم لم يجز عليها الانقلاب والتغير؛ لأن التغير والانقلاب من سمات الحدث، فبطل أن يكون المنقلب المتصرف قديما.
فأما ما ادعوه من قبول النطفة، بما فيها من القوة والاغتذاء والتربية، فإن ذلك لا ينكر، إذا صح العلم به من طريق العادات، ولكن الذي ننكره من ذلك، أن يكون هذا الفعل
[ ص: 504 ] للنطفة بذاتها، من غير مدبر دبرها لذلك، ولو كان هذا جائزا من غير مدبر حكيم، عالم قدير، يعلم كيف يدبر النطفة، ويقلبها أطوارا ويسوي منها السمع لما يصلح له، ويضعه في موضعه، والبصر في مكانه، الذي يليق به في البدن، وكذلك تعليق اليدين العاملتين في موضعهما، والرجلين الحاملتين في أخص المواضع بهما، ووضع كل شيء من القلب والكبد والطحال، وسائر الأجسام في الموضع الذي هو أملك به، وأشكل لما أعد له من الفعل، واليدين. لجاز أن يرتفع الماء من البئر إليه، ويختلط بالطين، ويقع الطين في قالب اللبن، وينطبع به، ثم يرصف إلى موضع البناء، فيرتفع بعضه على بعض فينتضد حتى يكون بناء رفيعا محكما مشيدا، من غير بان ولا رافع ساقا على ساق؛ بل ينطبع الماء والتراب بنفسهما لا بشيء سواهما، فإن لم يكن هذا جائزا، لأنه ليس من طبع الماء والتراب أن يكون منهما ما وصفت، فكذلك غير جائز تركيب الإنسان، وتصويره وتخطيطه على ما عليه الإنسان، من حسن الصورة، وعجيب التركيب، بنفس النطفة وطبعها. ويجاز على هذا بطبع الخشب، وجود سفينة اجتمعت أجزاؤها واعتدلت،
[ ص: 505 ] وتماسكت وداخل بعضها بعضا، وقربت من الساحل معها دقلها وآلاتها، يعبر من يريد العبور من السواحل، ثم تعود بنفسها إلى مركزها ومرساها كذلك. ويجاز بطبع الماء والنار والتربة، أن يوجد حمام في أسفله نار وفي بيوته ماء على غاية الاعتدال في الحرارة والرطوبة، من غير بان بناه ومسخن سخنه، ومدبر دبره. فإن لم يجز شيء مما ذكرناه، فليكن مثل ذلك ما ادعوه من النطفة واجتماع خلق الإنسان منها، من غير مدبر حكيم دبره وأحكمه.
فهذا الدليل يتضمن أن المحدث لا بد له من محدث، وأن ما فيه من الحكمة لا بد له من قاصد حكيم».