ولكن الغرض بيان ممانعة
الجهمية والدهرية، وعجز كل طائفة عن تصحيح قولها؛ لاشتراك الطائفتين في جحد أصول فطرية ضرورية جاءت الرسل بكمالها وتمامها، وشهدت بها الأقيسة الصحيحة، وأن
الجهمية عاجزون عن الجواب عن شبه
الدهرية على أصولهم، وأن
الدهرية عن الجواب عن حجج
الجهمية على أصول أنفسهم أعجز، وأن حجة كل واحدة من الطائفتين باطلة على أصل نفسه، كما هي باطلة على أصل خصمه. فإذا كانت حججهم باطلة على الأصلين، كما أن ذلك أيضا باطل على الأصول الصحيحة: ظهر مع بطلان أصولهم عظم تناقضهم من كل وجه.
[ ص: 19 ] وقد تقدم أن هذه الحجة "حجة الحكمة والغرض للفعل" احتج بها
الدهرية ، وذكرنا أنهم يعارضون بها على كل قول يقولونه. فتبين أن الذي يلزمهم أعظم مما فروا منه.
ونقول: قد تبين أنهم معترفون بما هو مشهود معلوم من ظهور الحكمة التي في العالم التي يسمونها "العناية".
والفلاسفة من أعلم الناس بهذا، وأكثر الناس كلاما فيما يوجد في المخلوقات من المنافع والمقاصد والحكم الموافقة للإنسان وغيره، وما يوجد من هذه الحكمة في بدن الإنسان وغيره، سواء كانوا ناظرين في "العلم الطبيعي" وفروعه، أو "علم
[ ص: 20 ] الهيئة" ونحوه من "الرياضي" أو "العلم الإلهي" وأجل
[ ص: 21 ] القوم الإلهيون. وقد تقدم ما ذكر من اعترافهم بأن هذه الموافقة ضرورة من قبل فاعل قاصد لذلك مريد. ولا ريب أن الاعتراف بهذا ضروري كالاعتراف بأن المحدث لا بد له من محدث، والممكن لا بد له من مرجح، فكما أن هناك مقدمتين: (إحداهما ) أن هنا حوادث مشهودة، والحادث لا بد له من محدث. والأولى حسية، والثانية عقلية بديهية ضرورية. وكذلك أن ها هنا ممكنات، والممكن لا بد له من مرجح واجب، فكذلك ها هنا مقدمتان: (إحداهما ) أن هنا حكما ومنافع مطلوبة، (والثانية ): أنه لا بد لذلك من فاعل قاصد مريد، وهما مقدمتان ضروريتان: الأولى حسية، والثانية عقلية؛ فإن الإحساس بالانتفاع كالإحساس بالحدوث -وإن كان في تفصيل ذلك ما يعلم بالقياس أو الخبر- ثم هذه
الحكم قد يعلم حدوثها، وقد يعلم إمكانها، [ ص: 22 ] كالأسباب.
وأيضا فإنه يقال: هذا الموجود المحسوس يستلزم الواجب القديم؛ فإن كل موجود: إما قديم واجب بنفسه، وإما ممكن أو محدث، والممكن والمحدث يستلزم القديم الواجب، فثبت الموجود الواجب بنفسه. فكذلك يقال: هذه
المقاصد المحسوسة تستلزم وجود مقصود لنفسه؛ لأن هذه المقصودات: إما أن تكون مقصودة لنفسها أو لغيرها، والمقصود لغيره يستلزم وجود المقصود لنفسه، فثبت أنه لا بد من مقصود لنفسه على التقديرين، كما ثبت أنه لا بد من موجود لنفسه على التقديرين، ثم هذا يدل على وجود المريد القاصد الفاعل لأجل هذه المقصودات لغيرها ولنفسها.
وإذا تقرر هذا تبين
تناقض الفلاسفة وفساد مذهبهم في حجة [ ص: 23 ] "الحكمة والغرض" وحجة "السبب الحادث" وهما جماع الكلام. وذلك أنهم لما قالوا في حجة الغرض: إذا أحدثه كان فاعلا بالاختيار وذلك محال -لما تقدم من الوجهين (أحدهما ) أن ذلك يستلزم إما استكماله بغيره، وإما العبث، ولما في ذلك من المحذور على تقدير جواز القبائح عليه وعدم جوازها-