الوجه الثالث: أن يقال له: ما ذكرته من الأمور الضرورية في الأسباب إنما يجيء في حق من لم يخلقها دون من خلقها، ومن هنا وقع الغلط حيث
قستم أفعال الله بأفعالنا حتى عجزتموه عن غير ما خلقه، وذلك أن الواحد منا إذا أراد أمرا من أكل وشرب ولباس وسفر وغير ذلك فإن لم يحصل الأسباب التي بها جعل الله وجود المطلوب لم يحصل، والأسباب خارجة عن قدرته، وإنما يمكنه تأليف ما يؤلفه أو نقله من موضع إلى موضع، وأمثال ذلك من الأفعال دون إبداع الأعيان، وأما الله سبحانه وتعالى وإن كان قد جعل بعض الأشياء سببا كما جعل الأكل مثلا سببا للشبع، وخلق الطعام يغذي الإنسان، فهو الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسنا ومما لا نعلم، وإذا كان هو الخالق للجميع فيمتنع أن يكون مضطرا إلى شيء من ذلك، فإنه إذا قيل: البصر لا يمكن إلا بالعين، والسمع لا يمكن إلا بالأذن، ونحو ذلك من الأسباب. فيقال: هو الذي جعل هذه الماهيات وأبدعها، وجعل لها هذه الصفات التي يتوصل بها إلى هذه المقاصد، وقد كان من الممكن أنه إذا غير
[ ص: 34 ] هذا التخليق أن يحصل إما فوق تلك الحكمة، وإما ما هو دونها، وإما ما يشاركها في الجنس دون النوع، وإن كان نفس الحكمة الحاصلة، فهذا لا يحصل إلا بمثله. ألا ترى أن أهل الجنة يكونون في أبدانهم وقواهم أعظم مما هم في الدنيا مع كون هذه الحكم هناك أكمل وأبلغ. وهب أن المنازع لا يصدق بمثل ذلك، فمن المشهود أن أبصار الناس وأسماعهم وسائر قواهم تختلف في القوة والضعف، فتكون المنافع الحاصلة لهم متفاوتة، مع أن العلم الضروري بأن الذي له لو جعل لهذا والذي لهذا لو جعل في هذا لكان يفوت التعيين، وذلك لا يبطل أصل الحكمة، وهكذا البلاد تختلف فيما خلق فيها من الأقوات والأنهار والمساكن فيختلف لذلك وجه الانتفاع، مع أن أصل المقصود حاصل في الجميع، وقد يحول الله ما ببعض البلاد
[ ص: 35 ] إلى بعض مع أن نظام العالم قائم، والتحويل من حال إلى حال موجود في العالم، فلو كان ما يوجد من الصفات والمقادير لغاية -بمعنى أن وجود تلك الغاية ضروري أي لا يمكن عدمه وإلا لزم منه فساد عام- لم يكن الأمر كذلك.