الوجه الخامس - أن يقال: هذه الأمور المستحيلة من حال إلى حال فحركاتها واستحالاتها إما أن تكون واجبة لذاتها
[ ص: 36 ] أن تكون كذلك وإما ألا تكون واجبة لذاتها، بل إنما صارت كذلك بفاعل غيرها. فإن قدر الأول قيل: فإذا جاز فيما هو واجب بنفسه أن يتحرك حركة استحالة، فيكون تارة عالما، وتارة جاهلا، وتارة شبعان، أو تارة جائعا، وتارة صحيحا، وتارة مريضا، كما يقول نحو ذلك القائلون بوحدة الوجود
[ ص: 37 ] -كصاحب الفصوص وأمثاله-
ويدعون أن الكمال المطلق أن يكون واجب الوجود منعوتا بكل نعت، سواء كان محمودا شرعا [ ص: 38 ] أو عرفا وعقلا، أو مذموما شرعا وعرفا وعقلا، وأنه هو المتلذذ بكل ما في الوجود من الألم، وأنه هو الذي يتجدد له العلم بعد أن لم يكن عالما وينشدون:
وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه
وينشدون:
وما أنت غير الكون بل أنت عينه ويفهم هذا السر من هو ذائق
وأمثال ذلك من كلامهم المعروف نثرا أو نظما، ويدعون أن هذا هو التحقيق الذي آمن إليه هرامس الدهور الأولية،
[ ص: 39 ] والمعرفة التي رامت إفادتها الهداية النبوية، وإن كان لهم في تفصيل هذا المذهب اضطراب قد بيناه في غير هذا الموضع.
فيقال: إذا قدرنا هذه الموجودات المشهودة واجبة الوجود بنفسها أو هي الموجود الواجب بنفسه، أو وجودها غير وجود واجب الوجود: لم يكن حينئذ أن يقال في واجب الوجود إنه لا يفعل بعد أن لم يكن فعل؛ لأن ذلك يقتضي تجدد أمر ما، وحدوث أمر منه ممتنع. ولا أن يقال: ذلك يقتضي ثبوت الصفات له، أو تجزيه، أو حلول الحوادث به، ونحو ذلك، وذلك ممتنع؛ فإنه من جوز أن يكون واجب الوجود هو الموجود المستحيل من حال إلى حال، وأنه تارة يكون نطفة ثم علقة، ثم مضغة. وتارة حبا ثم شجرا، ثم ثمرا. وتارة: حيا ثم
[ ص: 40 ] ميتا: لم يبق عنده شيء يمتنع على واجب الوجود، إذ هو واصف له بكل صفات واقعة في الموجودات التي هي عند الناس مخلوقة ممكنة، ومن جوز أن يوصف بكل ما يوصف به كل مخلوق وممكن بطل حينئذ أن يقول هو علة قديمة لا يجوز عليها التغير والاستحالة ونحو ذلك مما يصف به المشاؤون لواجب الوجود.
وهذا القول وإن كان فاسدا من وجوه كثيرة فالمقصود هنا أن ندرجه في ضمن التقسيم، وذلك
أن الموجود الواجب بذاته أدنى خصائصه امتناع العدم عليه وهؤلاء يجعلون ما وجد وعدم من واجب الوجود لذاته. وأصل ضلالهم ظنهم أن الوجود المطلق له وجود في الخارج: فقالوا بوحدة الوجود -أي الوجود الواحد- ولم يعلموا أن الوجود المطلق لا وجود له في
[ ص: 41 ] الخارج، وإنما الموجود في الخارج موجودان كل منهما متعين متميز عن الآخر، وليس أحدهما هو الآخر بعينه، ولا نفس وجود هذا هو نفس وجود هذا، بل الذهن يأخذ وجودا مطلقا مشتركا فيه. فإذا قال بوحدة الوجود فإنما قال بوحدة هذا الوجود الذهني المطلق. ومن قال الوجود زائد على الماهية قد يقول بأن وجود الماهيات من جنس واحد وهو قول فاسد، لكنه لا يقول نفس وجود هذا هو نفس وجود هذا بعينه، فإن هذا مخالفة للحس ولصريح العقل، ولهذا يقول كبير هؤلاء
الاتحادية في وقته
التلمساني: [ ص: 42 ] ثبت عندنا في الكشف ما يناقض صريح العقل، وذلك أن الذي ينكشف لهم أنهم متوجهون بقلوبهم توجها لا يعرفون فيه الرب البائن عن خلقه حتى يقصدوه، فيشهدون الوجود المطلق المشترك بين الموجودات وإن لم يوجد في الخارج، لكن القلوب تحدده وتأخذه مطلقا وفي كل معين منه حصة.. وهذا الوجود المطلق الساري في الكائنات وإن كان موجودا فيها على وجه التعيين والتخصيص وهو الذي يقال
[ ص: 43 ] له: "الكلي الطبيعي" فذاك من أثر وجود الله تعالى ومن مخلوقاته ومصنوعاته، فيظنون الوجود المخلوق هو الوجود الخالق.
وهم يشبهون من بعض الوجوه من رأى شعاع الشمس الذي على الأرض والحيطان والجبال فظنه نفس الشمس التي في السماء، مع أن هذا الشعاع منفصل عن الشمس، ومع أنه قائم بأجسام غيرها. والمخلوقات وإن كان لها وجود وتحقق فهو مخلوق لله بائن منه، وغايته إذا قدر أن الوجود زائد على الماهيات أن يكون الوجود في الموجودات كالشعاع في الأجسام المقابلة للشمس. فصار هذا الضلال ناشئا من نقص العلم والإيمان بالرب المباين للمخلوقات، ومن شهود القلب لما وجد عنه من الوجود الساري في الكائنات، فظن هذا هذا.
وقوى إضلالهم ما سمعوه من كلام المتفلسفة ومن وافقهم: أن واجب الوجود هو الوجود المطلق، وأنه لا داخل العالم ولا خارجه، ونحو ذلك من مقالات
الجهمية ، فلم يشهدوا
[ ص: 44 ] [ما ] يكون كذلك إلا وجود الكائنات بعينه، ولهذا يقولون بقول
الباطنية القرامطة وغالية
[ ص: 45 ] الفلاسفة، فيقولون: هو من حيث ذاته لا اسم له ولا صفة ولا يتميز، ويقولون: شهود الذات ما فيه خطاب ولا لذة فيه ونحو ذلك؛ لأنهم إنما يتكلمون على ما شهدوه من الموجود المطلق الذي لا يوجد في الخارج مطلقا، وذلك ليس له حقيقة متميزة حتى يكون لها اسم أو صفة أو خطاب.