(عصمنا الله تعالى وإياك من الأهواء المضلة، والآراء
[ ص: 145 ] المغوية والفتن المحيرة، ورزقنا وإياك الثبات على السنة والتمسك بها، ولزوم الطريقة المستقيمة التي درج عليها السلف، وانتهجها بعدهم صالحو الخلف، وجنبنا وإياك مداحض البدع، وبنيات طرقها العادلة عن نهج الحق وسواء الواضحة، وأعاذنا وإياك من حيرة الجهل، وتعاطي الباطل، والقول بما ليس لنا به علم، والدخول فيما لا يعنينا، والتكلف لما قد كفينا الخوض فيه ونهينا عنه، ونفعنا وإياك بما علمنا، وجعله سببا لنجاتنا، ولا جعله وبالا علينا برحمته. وقفت على مقالتك، وما وصفته من أمر ناحيتك، وظهور ما ظهر بها من مقالات أهل الكلام، وخوض الخائضين فيها، وميل بعض منتحلي السنة إليها، واغترارهم بها،
واعتذارهم في [ ص: 146 ] ذلك بأن الكلام وقاية للسنة، وجنة لها يذب به عنها، ويذاد بسلاحه عن حريمها، وفهمت ما ذكرت من ضيق صدرك بمجالستهم وتعذر الأمر عليك في مفارقتهم؛ لأن توقفك بين أن تسلم لهم ما يدعونه من ذلك فتقبله؛ وبين أن تقابلهم على ما يزعمونه فترده وتنكره، وكلا الأمرين يصعب عليك: أما القبول فلأن الدين يمنعك منه، ودلائل الكتاب والسنة تحول بينك وبينه، وأما الرد والمقابلة فلأنهم يطالبونك بأدلة العقول، ويؤاخذونك بقوانين الجدل، ولا يقنعون منك بظواهر الأمور. وسألتني أن أمدك بما يحضرني في نصرة الحق من علم وبيان، وفي رد مقالة أولئك من حجة وبرهان، وأن أسلك في ذلك طريقة لا يمكنهم ردها، ولا يسوغ لهم من جهة المعقول إنكارها، فرأيت إسعافك به لازما في حق الدين، وواجب النصيحة لجماعة المسلمين. وأنا أسأل الله تعالى أن يوفق
[ ص: 147 ] لما ضمنت لك، وأن يعصم من الزلل فيه.
واعلم يا أخي أن هذه الفتنة قد عمت اليوم وشملت، فشاعت في البلاد واستفاضت، ولا يكاد يسلم من رهج غبارها إلا من عصمه الله، وذلك مصداق لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:
nindex.php?page=hadith&LINKID=104469 "إن الدين بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء" فنحن اليوم في ذلك الزمان وبين أهله فلا تنكر ما تشاهده منه
[ ص: 148 ] وسل الله العافية من البلاء، واحمده على ما وهبه لك من السلامة.
ثم إني تدبرت هذا الشأن فوجدت عظم السبب فيه أن الشيطان صار بلطيف حيلته يسول لكل من أحس من نفسه بفضل ذكاء وذهن يوهمه أنه إن رضي في علمه ومذهبه بظاهر من السنة، واقتصر على واضح بيان منها كان أسوة العامة، وعد واحدا من الجمهور والكافة، فحركهم بذلك إلى التنطع في النظر، والتبدع في مخالفة السنة والأثر، ليبينوا عن طريقة الدهماء، ويتميزوا في الرتبة
[ ص: 149 ] عمن هو دونهم في الفهم والذكاء، واختدعهم بهذه المقدمة حتى أزلهم عن واضح المحجة، وأورطهم في شبهات تعلقوا بزخارفها، وتاهوا في حقائقها، ولم يخلصوا فيها إلى شفاء نفس، ولا قبلوها بيقين، ولما رأوا كتاب الله تعالى ينطق بخلاف ما انتحلوه، ويشهد عليهم بباطل ما اعتقدوه: ضربوا بعض آياته ببعض، فتأولوها على ما سنح لهم في عقولهم، واستوى عندهم على ما وضعوه من أصولهم، ونصبوا العداوة لأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولسنته المأثورة عنه، وردوها
[ ص: 150 ] على وجوهها، وأساءوا في نقلتها القالة: ووجهوا عليهم الظنون، ورموهم بالفرية، ونسبوهم إلى ضعف السنة، وسوء المعرفة بمعاني ما يروونه من الحديث، والجهل بتأويله. ولو سلكوا سبيل القصد ووقفوا عندما انتهى بهم التوقيف لوجدوا برد اليقين، وروح القلوب، ولكثرت البركة، وتضاعف النماء، وانشرحت الصدور، ولأضاءت فيها مصابيح النور
والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم [البقرة: 213 ].
واعلم أن
الأئمة الماضين والسلف المتقدمين لم يتركوا هذا النمط من الكلام، وهذا النوع من النظر عجزا عنه ولا انقطاعا دونه، وقد كانوا ذوي عقول وافرة، وأفهام ثاقبة،
[ ص: 151 ] وكان في زمانهم هذه الشبه والآراء، وهذه النحل والأهواء، وإنما تركوا هذه الطريقة، وأضربوا عنها لما تخوفوه من فتنتها، وحذروه من سوء مغبتها، وقد كانوا على بينة من أمرهم، وعلى بصيرة من دينهم، لما هداهم الله به من توفيقهم، وشرح به صدورهم من نور معرفته. ورأوا أن فيما عندهم من علم الكتاب وحكمته وتوقيف السنة وبيانها غنى ومندوحة عما سواهما، وأن الحجة قد وقعت بهما، والعلة أزيحت بمكانهما. فلما تأخر الزمان بأهله، وفترت عزائمهم في طلب حقائق علوم الكتاب والسنة، وقلت عنايتهم بها، واعترضهم الملحدون بشبههم، المتحذلقون بجدلهم: حسبوا أنهم [إن ] لم يردوهم عن أنفسهم بهذا النمط من الكلام، ويدافعوهم بهذا النوع من الجدل، لم يقووا ولم يظهروا
[ ص: 152 ] في الحجاج عليهم، فكان ذلك ضلة في الرأي، وعيبا فيه، وخدعة من الشيطان. والله المستعان.
فإن قال هؤلاء: فإنكم قد أنكرتم الكلام، ومنعتم استعمال أدلة العقول: فما الذي تعتمدون في صحة أصول دينكم؟ ومن أي طريق تتوصلون إلى معرفة حقائقها وقد علمتم أن الكتاب لم يعلم حقه، والنبي لم يثبت صدقه إلا بأدلة العقول وأنتم قد نفيتموها؟
قلنا: إنا لا ننكر
أدلة العقول والتوصل بها إلى المعارف، ولكن لا نذهب في استعمالها إلى الطريقة التي سلكتموها في الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها على حدوث العالم وإثبات الصانع، ونرغب عنها إلى ما هو أوضح بيانا، وأبين برهانا، وإنما هو شيء أخذتموه عن
[ ص: 153 ] الفلاسفة ، وإنما سلكت
الفلاسفة هذه الطريقة لأنهم لا يثبتون النبوات ولا يرون لها حقيقة، فكان أقوى شيء عندهم في الدلالة على إثبات هذه الأمور ما تعلقوا به من الاستدلال بهذه الأشياء. فأما مثبتو النبوات فقد أغناهم الله تعالى عن ذلك وكفاهم كلفة المؤونة في ركوب هذه الطريقة المتعوجة التي لا يؤمن العنت على راكبها، والإبداع والانقطاع على سالكها.
وبيان ما ذهب إليه السلف من أئمة المسلمين رحمة الله عليهم أجمعين
والاستدلال على معرفة الصانع سبحانه وتعالى، وإثبات توحيده وصفاته، وسائر ما ادعى أهل الكلام أنه لا يتوصل إليه إلا من الوجه الذي يزعمونه : هو أن الله سبحانه وتعالى لما أراد إكرام من هداه لمعرفته بعث رسوله
محمدا صلى الله عليه وسلم بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا،
[ ص: 154 ] وقال له:
يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته [المائدة: 67 ]. وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع وفي مقامات له شتى وبحضرته عامة الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين:
nindex.php?page=hadith&LINKID=651623 "اللهم هل بلغت"؟ فكان ما أنزل الله تعالى وأمر بتبليغه هو كمال الدين وتمامه لقوله:
اليوم أكملت لكم دينكم [المائدة: 3 ] فلم يترك شيئا من
[ ص: 155 ] أمور الدين وقواعده وأصوله وشرائعه وفصوله إلا بينه وبلغه على كماله وتمامه، ولم يؤخر بيانه عن وقت الحاجة إليه؛ إذ لا خلاف بين فرق الأمة أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز بحال. ومعلوم أن
أمر التوحيد وإثبات الصانع لا تبرح فيهما الحاجة داعية أبدا في كل وقت وزمان، ولو أخر فيهما البيان لكان قد كلفهم ما لا سبيل لهم إليه وإذا كان الأمر على ما قلنا وقد علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدعهم من هذه الأمور إلى الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها، إذ لا يمكن أحد من الناس أن يروي في ذلك عنه ولا عن واحد من أصحابه من هذا النمط حرفا واحدا فما فوقه لا من طريق تواتر ولا آحاد علم أنهم قد ذهبوا خلاف
[ ص: 156 ] مذهب هؤلاء، وسلكوا غير طريقتهم ).
قلت: وهذا الكلام يشبه ما ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=13711أبو الحسن الأشعري في رسالته الثغرية ومضمون ذلك أن هذه الطريقة محدثة مبتدعة، مستغنى عنها، منهي عن سلوكها لذلك، وليس فيه بيان أنها باطلة. ولكون أمثال هؤلاء لا يعتقدون بطلانها في الباطن وإن نهوا عن سلوكها وقع منهم أقوال مبنية على بعض مقدماتها وإن خالفت النصوص والمعقول. والذي عليه حذاق الأئمة والعلماء أنها طريقة باطلة، كما يقول ذلك طوائف من أهل الكلام
والفلاسفة .