وهؤلاء المشايخ الموجودون في هذه الكتب ليس فيهم من هو معروف باعتقاد مذهب الباطنية المخالف للظاهر؛ بل لهم من الكلام في نقيض ذلك بل في رد البدع الصغار وحفظ الشريعة باطنا وظاهرا من الكلام والقوة في ذلك والموالاة عليه والمعاداة عليه ما لا يوجد كثير منه لكثير من أئمة الفقهاء. وحذاق الشيوخ أكثر عناية بالرد على
الجهمية من كثير من حذاق الفقهاء؛ لا سيما الكاملين في التصوف منهم وهم أهل الحديث، كما كانوا يوصون الإنسان أن يكتب الحديث وأن يتصوف؛ فإن هؤلاء من أعظم الناس رعاية لما جاءت به الشريعة من الأقوال والأعمال، ومحافظة على ما دل عليه ظاهرها مع تحقيق باطنها، فيجمعون بين الظاهر والباطن.
وأما ما حكاه عنهم حيث قال: (
وأما "الصوفية" [ ص: 178 ] فطرقهم في النظر ليست طريقة نظرية -أعني من مقدمات وأقيسة- وإنما يزعمون المعرفة بالله وبغيره من الموجودات بشيء يلقى في النفس عند تجريدها من العوارض الشهوانية وإقبالها بالقلوب على المطلوب ).
فيقال: هذه الأشياء إنما أخذها هذا من كلام
أبي حامد فإنه كثيرا ما يذكر في كتبه أن الطريق إلى المعرفة هي هذا، وهو يذكر ذلك في الكتب التي يذكر فيها كلام المشايخ
الصوفية كـ"الإحياء" وغيره، ويذكر بعض ما في النصوص والآثار
[ ص: 179 ] وكلام المشايخ
الصوفية من الدلالة على تأثير العمل الصالح في حصول العلم. فظن هذا وأمثاله أن هذا مذهب
الصوفية كما حكاه، وليس الأمر على ما قالوه، بل
مشايخ الصوفية الذين لهم في الأمة لسان صدق متفقون على وجوب تعلم العلم الشرعي، وتدبر كتاب الله تعالى والنظر فيما ذكره فيه من الآيات والأمثال المضروبة، ومتفقون أيضا على النظر والاعتبار بما في المخلوقات من الآيات؛ بل هم أعظم تجردا لكثير من النظر والاعتبار في الآيات المسموعة والآيات المشهودة من كثير من أهل الكلام والفقه، وحالهم في ذلك أشهر عند من يعرفه من أن يحتاج إلى بسط.
وأما أنهم يقولون: إن مجرد ترك الشهوات والتجرد المحض يوجب معرفة الحقائق من معرفة ما جاءت به الرسل ومن غير نظر في ذلك وتدبر. فهذا ليس طريق القوم الذين لهم في الأمة لسان صدق، ولهذا وصيتهم بالعلم الشرعي والمحافظة عليه في الأصول الخبرية وفي الأعمال أعظم من أن يذكر هنا.
[ ص: 180 ] نعم فيهم من قد يجرد بعض العبادات كالذكر ويوصون بذلك في الابتداء ليصفى به القلب، ويثبت على الإيمان وينقطع عن الالتفات إلى غير الله، فليس ذلك مجرد ترك الشهوات؛ بل نفس الذكر لله تعالى والاستحضار هو الذي يرقي النفس ويصلح القلب وينوره ويقويه ويثبته، وإنما ترك الشهوات معين على ذلك أو شرط فيه، لا أنها هي كل الطريق، إذ الأمور العدمية لا تحصل بنفسها أمورا وجودية، ولكن قد تكون شرطا في الأمور الوجودية.
وأيضا فهم وغيرهم من أهل الكلام والفقه والحديث يقولون: إن
المعارف التي يزعم النظار أنها لا تحصل بالقياس قد تحصل بالفطرة البديهية الضرورية عند ترك النفس هواها وتوجهها إلى طلب الحق. وهذا والله أعلم هو أصل المعنى الذي قال عنهم لأجله ما قال؛ ولكن هذا ليس كلام
الصوفية وحدهم، بل وحذاق المتكلمين يوافقونهم على هذا، حتى
أبو عبد الله الرازي ونحوه، فإنه قال في "مسألة وجوب النظر" لما ذكر أن المعرفة [الـ ] واجبة لا تحصل
[ ص: 181 ] إلا به فطالب المعارض بالدليل على أن المعرفة لا تحصل إلا بالنظر فقال من جهة نفسه: (
الطريق إلى تحصيل العلم بالأشياء: إما الحس، أو الخبر، أو النظر ) والأولان لا يكونان طريقين فتعين النظر ). وقال من جهة المعترض: (لا نسلم أن طريق تحصيل المعارف هذه الطرق الثلاث فما الدليل عليه؟ ثم أنا نبين ها هنا طريقا آخر وهو تصفية النفس عن العلائق الجسدانية والهيئات البدنية، فإنها متى خلت عن هذه الأمور حصل لها عقائد يقينية، وهذا هو طريق
الصوفية وأصحاب الرياضة، فإنهم جازمون بما هم عليه من العقائد في
[ ص: 182 ] المعارف الإلهية، وأما أصحاب النظر فقلما يحصل لهم مثل هذا الجزم، وإذا كان كذلك فالرياضة [إن ] لم تتعين طريقا إلى معرفة الله تعالى فلا أقل من أن تكون من جملة الطرق المفيدة لمعرفة الله، فإذا كان كذلك بطل ما ذكرتموه من الحجة ) وقال في جواب هذا: (قوله: لم لا يجوز أن تكون التصفية طريقا إلى اكتساب المعارف؟ قلنا: العقائد الحاصلة عند التصفية: إما أن تكون ضرورية [وإما أن لا تكون، فإن كانت فلا كلام لنا فلما قلنا هذا علم أن النظريات يمكن أن تصير ضرورية وإن لم تكن ضرورية ] فلا يخلو إما أن تكون تلك العقائد بحال يلزم من زوالها زوال شيء من العلوم الضرورية، أو لا يلزم. فإن لزم فتلك العلوم إنما حصلت مرتبة على تلك العلوم الضرورية، ولا معنى للعلم النظري إلا ذلك. وإن لم يلزم فتلك العقائد ليست إلا عقائد تقليدية، ولا عبرة حينئذ بذلك؛ فإن أمثال تلك العقائد قد تحصل لأصحاب الرياضة من المبطلين نحو اليهود
[ ص: 183 ] والنصارى
والدهرية ).