الوجه الثاني: قوله: (فأما
حدوث الذوات ابتداء من غير سبق مادة ولا طينة فهذا شيء ما شاهدناه البتة ).
[ ص: 269 ]
ليست هذه المخلوقات من الماء والطين مثل الصور التي يصورها بنو
آدم من المواد، مع أن الذات باقية. كتصوير الخاتم والدرهم ونحو ذلك من الفضة وتصوير السرير والباب ونحو ذلك من الخشب، وتصوير الثوب من الغزل، فإن هذه المواضع لم تحدث فيها الذوات وإنما تغيرت صفة الذات. وأما الحيوانات والنباتات المشهودة فنفس هذه الذوات شهدنا حدوثها وخلقها، لكن خلقت من شيء آخر ليس هو من جنسها ولا من حقيقتها، وهذا من أبدع الأمور وأعظمها، فلم يكن ما منه خلقت هذه الأمور -وإن سماها بعض الناس مادة- مثل المواد المعروفة تكون بعينها باقية في الصور، أو تكون من جنس الصور. وإذا كان كذلك فقد شهدنا إبداع هذه الحقائق الموجودة وصفاتها بعد أن لم تكن موجودة كما قال تعالى:
أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا [مريم: 67 ] غاية ما في هذا الباب أنا شهدنا خلقها من شيء ليس هو من جنسها ولا من حقيقتها، وشهدنا أنها تخلق من أوضع الأشياء وأحقرها وأبعدها عن صفات الكمال كخلق الإنسان من تراب كما قال الشاعر:
الذي حارت البرية فيه حيوان مستحدث من جماد
[ ص: 270 ] وهذا الذي شهدناه من أبلغ الإبداع أنه يخلق من الشيء ما لا يكون مجانسا له ولا يكون الأصل مشتملا على ما في الفرع من الصفات. فهذه الأمور المخلوقة التي لم تكن موجودة في أصلها ولا كامنة فيه هي مبدعة بعد العدم؛ لا منقولة من وصف إلى وصف، ولو كانت منقولة فنفس الصفات القائمة بها مبدعة بعد العدم، فقد شهدنا إبداع الجواهر والأعراض بعد عدمها، وهذا كاف في ذلك؛ إذ لا يجب أن نشهد إبداع كل جوهر وعرض بعد العدم؛ بل إذا شهدنا إبداع ما شاء الله من الجواهر والأعراض بعد عدمها كان ذلك محسوسا لنا، ثم عقلنا بطريق الاعتبار والقياس ما لم نشهده، وهكذا علمنا بجميع الأشياء نحس بعض أفرادها ونقيس ما غاب على ما شهدناه، وإلا فلا يمكن أن يعلم الشخص بإحساسه كل شيء.
فظهر بذلك أن طريق علمنا بأفعال الله حسا وعقلا مثل طريق علمنا بجميع الأمور، وظهر أن ما غاب عنا من أفعال
[ ص: 271 ] الله، وعلمناه بعقلنا ليس على خلاف ما أحسسناه وتخيلناه؛ بل هو من جنسه مشابه له؛ فضلا عن أن يكون مباينا له.
ونحن قد بينا فيما تقدم الفرق بين ما يعلم عدمه وامتناعه بحس أو عقل وبين ما يعلم له نظير بحس أو عقل. فالأول لا يجوز أن يكون موجودا بخلاف الثاني، فإنه يجوز أن يكون موجودا. وهذا ينفعنا في ذات الله فإنه ليس كمثله شيء. وأما أفعاله ومخلوقاته ففي الذي أشهدناه عبرة لما لم نشهده، والغائب من جنس الشاهد؛ وذلك لأن المماثلة ثابتة في المفعولات، كما قال تعالى:
ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون [الذاريات: 49 ] فلو لم يكن الغائب من أفعاله نظيرا للشاهد لم يجز ذكره ولا يقال: إنه على خلاف حكم العقل، فالحس والخيال كما في ذاته تعالى، فكيف إذا كان الغائب نظير الشاهد حيث أشهدنا إبداع الجواهر وصفاتها بعد عدمها. يا سبحان الله ! أيما أبلغ في عقل الإنسان إبداع الإنسان بعد عدمه، أم إبداع طينته التي خلق منها بعد عدمها؟ ! فإذا كان قد شهد هذا الجوهر العظيم الموصوف بصفات الكمال بعد عدمه، أفليس ذلك أعظم من إبداع تراب أو ماء بعد عدمه؟ ! والله سبحانه وتعالى لما خلق السموات والأرض خلق
آدم آخر
[ ص: 272 ] المخلوقات، كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة، ومن
[ ص: 273 ] خلق آخر المخلوقات لم يمكنه أن يشهد خلق نفسه ولا ما خلق قبله، كما قال تعالى:
ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم [الكهف: 51 ] وله فيما شهده في المخلوقات عبرة فيما لم يشهده.