فقد بين في هذا الكلام
امتناع أن يقال في الباري: ليس بمماس ولا مباين، فينفى عنه الوصفان المتناقضان، اللذان لا يخلو الموجود منهما جميعا، كما هو معلوم بصريح العقل، فهذان ونحوهما متضادان في الإثبات، وفي النفي جميعا.
وذكر على ذلك ثلاث حجج.
أحدها: أن انتفاء هذين جميعا ممتنع في حق الإنسان محال، فإن جاز وصفه بهذا المحال، جاز وصفه بغيره من المحالات.
قلت: وهذا الإلزام، مثل أن يقال: لا عالم ولا جاهل،
[ ص: 96 ] ولا قادر ولا عاجز، ولا حي ولا ميت، ونحو ذلك، كما يقول الملاحدة، فينفون المتقابلات.
الحجة الثانية: أن سلب هذين جميعا يوصف به المعدوم، الذي ليس بثابت في الإنسان، فإذا وصفوا بهما المعبود فقد جعلوا ما وصفوا به الثابت في حق الخالق، كما وصفوا أنه العدم في حق المخلوق، فإذا جاز أن يوصف بما هو صفة المعدوم في حق المخلوق، لزم أن يوصف بنفس العدم، كما يوصف المخلوق بأنه عدم، إذا وصف بصفات العدم.
الحجة الثالثة: أنه إذا جاز أن يقال: إذا كان ما هو صفة عدم في حق المخلوق، وجودا في حقه، جاز أن يكون ما هو جهل في حق المخلوق، علما في حقه، وما هو عجز في حق المخلوق، قدرة في حقه، وجماع هذه الحجج وصفه بالمحال، ووصفه بالمعدوم، ووصفه بضد صفات الكمال، وهو الجهل والعجز لربهم، حين جوزوا وأخلوه عن المماسة والمباينة، مع قولهم بأن هذا ممتنع في الوجود غيره، ففرقوا بين الواجب والممكن، في الخلو عن النقيضين من جهة المعنى، حيث جعلوه ثابتا لهذا منتفيا عن هذا، فلزمهم مثل ذلك في نظائره، وهذه حجج قولية، من أجود المقاييس العقلية، لمن
[ ص: 97 ] فهمها، وهذا لأن كون الشيء القائم بنفسه، غير مماس لغيره، ولا مباين له، لما كان ممتنعا في بديهية العقل -وادعى
الجهمي إمكان ذلك في حق الله تعالى- لزمه أن يجوز كل الممتنعات التي تناظره.