وإنما يعتمدون على ما يجدونه في كتب المتجهمة المتكلمين. وأجل من يعتمدون كلامه هو
أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي إمام هؤلاء المتأخرين، فاقتضى ذلك أن أتم الجواب عن «الاعتراضات المصرية، الواردة على الفتيا الحموية» بالكلام على ما ذكره
أبو عبد الله الرازي في كتابه الملقب بـ «تأسيس التقديس» ليتبين الفرق بين البيان والتلبيس، ويحصل بذلك تخليص التلبيس، ويعرف فصل الخطاب فيما في هذا الباب، من أصول الكلام، التي كثر بسببها بين الأمة النزاع والخصام، حتى دخلوا فيما نهوا عنه من الاختلاف في الكتاب، والقول على الله بغير علم الخطأ من الصواب، بل في أنواع الشك، بغير بيان من الله ولا دليل، ودخلوا فيما يخالف
[ ص: 9 ] النصوص من البراهين العقلية المعارضة.
(وإذا حققت القضايا العقلية الصريحة، ظهر دلالتها على فساد ما عارضوا به النصوص الصحيحة، التي التبست على كثير، ووقع بها التلبيس، وأنا أذكر ما ذكره أبو عبد الله الرازي، من) مذاهب أهل النفي والتعطيل، وما السبب الذي ضلوا به عن السبيل، لتقام المناظرة، مقام عدل وإنصاف، وإن كان المخالف من أهل الجهل والانحراف.
قال تعالى:
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن [النحل: 125] وقال تعالى:
ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم [العنكبوت: 46] وأكثر الطالبين للعلم والدين، ليس لهم قصد من غير الحق المبين، لكن كثرت في هذا الباب الشبه والمقالات، واستولت على القلوب أنواع الضلالات، حتى صار القول الذي لا يشك من أوتي العلم والإيمان، أنه مخالف للقرآن والبرهان، بل لا يشك في أنه كفر بما جاء به الرسول من رب العالمين، قد جهله كثير من أعيان الفضلاء، فظنوا أنه
[ ص: 10 ] من محض العلم والإيمان، بل لا يشكون في أنه مقتضى صريح العقل والعيان، ولا يظنون أنه مخالف لقواطع البرهان، ولهذا كنت أقول لأكابرهم: لو وافقتكم على ما تقولونه لكنت كافرا -مريدا لعلمي بأن هذا كفر مبين- وأنتم لا تكفرون لأنكم من أهل الجهل بحقائق الدين، ولهذا كان
السلف والأئمة يكفرون الجهمية في الإطلاق والتعميم، وأما المعين منهم فقد يدعون له ويستغفرون له لكونه غير عالم بالصراط المستقيم، وقد يكون العلم والإيمان ظاهرا لقوم دون آخرين، وفي بعض الأمكنة والأزمنة دون بعض بحسب ظهور دين المرسلين، فلهذا ذكرت ما ذكره
«أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي» المعروف بابن خطيب الري، الإمام المطلق في اصطلاح المقتدين به من أهل الفلسفة والكلام، المقدم عندهم على من تقدمه من صنفه في الأنام، القائم عندهم بتجديد الإسلام، حتى قد يجعلونه في زمنه ثاني الصديق في هذا المقام، لما رده في ظنهم من أقاويل
[ ص: 11 ] الفلاسفة بالحجج العظام،
والمعتزلة ونحوهم، ويقولون: إن
«أبا حامد» ونحوه، لم يصلوا إلى تحقيق ما بلغه هذا الإمام، فضلا عن «أبي المعالي» ونحوه، ممن عندهم فيما يعظمونه من العلم والجدل بالوقوف على نهاية الإقدام، وإن
«الرازي» أتى في ذلك من نهاية العقول والمطالب العالية، بما يعجز عنه غيره من ذوي الإقدام، حتى كان فهم ما يقوله عندهم هو غاية المرام، وإن كان فضلاؤهم مع ذلك معترفين بما في كلامه من كثرة التشكيك في الحقائق، وكثرة التناقض في الآراء والطرائق، وأنه موقع لأصحابه في الحيرة والاضطراب، غير موصل إلى تحقيق الحق، الذي تسكن إليه النفوس وتطمئن إليه الألباب، لكنهم لم
[ ص: 12 ] يروا أكمل منه في هذا الباب، فكان معهم كالملك مع الحجاب، وكان له من العظمة والمهابة في قلوب الموافقين له والمخالفين ما قد سارت به الركبان، لما له من القدرة على تركيب الاحتجاج والاعتراض في الخطاب، وها نحن نذكر ما ذكره
«أبو عبد الله الرازي» في كتابه الذي سماه «تأسيس التقديس» وضمنه الرد على مثبتي الصفات، القائلين بالعلو على العرش وبالصفات الخبرية الواردة في الأحاديث والآيات، فإنه استقصى في هذا الباب الحجج التي للجهمية من السمعيات والعقليات، وبالغ فيها بأعظم المبالغات، إذ صنف الكتاب مفردا في ذلك، مجردا في أمور الذات، وتأول فيه الآيات والأحاديث، الواردة في ذلك بما ذكره من أباطيل التأويلات، وذكر فيه ما ذكره من حجج
[ ص: 13 ] مخالفيه، وأجاب عنها بما أمكنه من الجوابات فكان عمدتهم في هذا الباب، فإذا عرف نهاية ما عند القوم من الدلائل والمقالات، كانت معرفة ذلك من أعظم نعم الله على من هداه، من أهل العلم والإيمان، فإنه يزداد بذلك يقينا واستبصارا، فيما جاء به القرآن والبرهان، ويتمكن من ذلك من نصر الله ورسوله بالغيب، وبيان ما في هؤلاء المخالفين للكتاب والسنة من العيب، ونحن ننبه عندما يذكره من أصول الكلام، على توصله إلى معرفة حقيقة ذلك المقام. وهذا الكتاب الذي صنفه الرازي على عادته وعادة أمثاله من المتفلسفة والمتكلمين في تصنيف الكتب لعظماء الدنيا من الملوك والوزراء، والقضاة والأمراء، وذويهم لينفقوا بجاه هؤلاء كلامهم حقا كان أو باطلا، وسواء قصدوا به وجه الله، أو قصدوا به العلو في الأرض أو الفساد، وكان ملك
الشام ومصر في زمانه الملك العادل،
أبو بكر بن أيوب. فصنفه
[ ص: 14 ] وأهداه له، ظنا أنه بجاهه ينتشر، واعتقادا فيه أنه يختار مذهب أهل النفي، ولم يكن الملك من هؤلاء النفاة، كما أخبر بذلك عنه ابنه
الأشرف وغيره، بل ظهر من سيرته ما يدل على محبته، وتعظيمه لأهل الإثبات، والله أعلم بحقيقة ما له في الدقائق المشكلات، والمعروف عنه وعن أهل بيته من تعظيم الحديث وأهله، والقيام بإحياء ذلك ينافي الطريقة التي نصرها
الرازي في «تأسيس تقديسه» وإن كان في أهل بيته من يميل إلى النفي، ومنهم من يميل إلى الإثبات، فلعله كان في بعض حاشيته من يميل إلى النفي، وكان
للرازي من الشهرة ما أوجب استعانة النفاة به، والله أعلم بأمثال هذه الأحوال، وقد ذكر في خطبة كتابه، ما هو من جنس خطب
الجهمية، التي كان يخطب بمثلها
nindex.php?page=showalam&ids=12212أحمد بن أبي دؤاد، على طريقة
nindex.php?page=showalam&ids=15211بشر [ ص: 15 ] المريسي وذويه.