قيل له: نقول: إن
الله عز وجل مستو على عرشه، كما قال: الرحمن على العرش استوى [طه: 5] وقد قال الله عز وجل:
إليه يصعد الكلم الطيب [فاطر: 10] وقال:
بل رفعه الله إليه [النساء: 158] وقال عز وجل:
يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه [السجدة: 5] وقال حكاية عن
فرعون: [ ص: 118 ] يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا [غافر: 36-37] كذب
موسى عليه السلام في قوله إن الله عز وجل فوق السموات، وقال عز وجل:
أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض [الملك: 16] فالسموات فوقها العرش، فلما كان العرش فوق السموات، قال:
أأمنتم من في السماء [الملك: 16] لأنه مستو على العرش الذي فوق السموات، وكل ما علا فهو سماء، فالعرش أعلى السموات، وليس إذا قال:
أأمنتم من في السماء [الملك: 16] يعني: جميع السماء، وإنما أراد العرش، الذي هو أعلى السموات، ألا ترى أن الله عز وجل ذكر السموات، فقال:
وجعل القمر فيهن نورا [نوح: 16] ولم يرد أن القمر يملأهن جميعا، وأنه فيهن جميعا، ورأينا المسلمين جميعا، يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء، لأن الله عز وجل مستو على العرش، الذي هو فوق السموات، فلولا أن الله عز وجل على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش، كما لا يحطونها إذا دعوا نحو الأرض» ثم قال: «فصل، وقد قال قائلون من
[ ص: 119 ] المعتزلة والجهمية والحرورية: إن معنى: قول الله عز وجل:
الرحمن على العرش استوى [طه: 5] إنه: استوى وملك وقهر، وأن الله عز وجل في كل مكان، وجحدوا أن يكون الله عز وجل على عرشه، كما قال أهل الحق وذهبوا في الاستواء إلى القدرة، ولو كان هذا كما ذكروه، كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة؛ لأن الله قادر على كل شيء، والأرض فالله قادر عليها وعلى الحشوش، وعلى كل ما في العالم، فلو كان الله مستويا على العرش بمعنى: الاستيلاء -وهو عز وجل مستول على الأشياء كلها- لكان مستويا على العرش، وعلى الأرض وعلى السماء، وعلى الحشوش والأقذار، لأنه قادر على الأشياء مستول عليها، وإذا كان قادرا على الأشياء كلها،
ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول: إن الله عز وجل مستو على الحشوش والأخلية، لم يجز أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها، ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص بالعرش دون الأشياء كلها، وزعمت
المعتزلة والحرورية والجهمية أن الله في كل مكان،
[ ص: 120 ] فلزمهم أنه في بطن مريم، والحشوش والأخلية، وهذا خلاف لدين الله -تعالى عن قولهم-» ثم قال: «مسألة:
ويقال لهم: إذا لم يكن مستويا على العرش، بمعنى يختص العرش دون غيره، كما قال ذلك أهل العلم، ونقلة الآثار وحملة الأخبار، وكان الله بكل مكان، فهو تحت الأرض التي السماء فوقها، وإذا كان تحت الأرض، فالأرض فوقه والسماء فوق الأرض، وفي هذا ما يلزمكم أن تقولوا: أن الله تحت التحت والأشياء فوقه، وأنه فوق الفوق والأشياء تحته، وفي هذا ما يجب أنه تحت ما هو فوقه، وفوق ما هو تحته، وهذا المحال المتناقض (تعالى الله عن افترائكم علوا كبيرا). [ ص: 121 ]
دليل آخر:
ومما يدل أن الله عز وجل مستو على عرشه دون الأشياء كلها: ما نقله أهل الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى
عفان قال: حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15744حماد بن سلمة، حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=16705عمرو بن دينار، عن
nindex.php?page=showalam&ids=17193نافع بن جبير، عن أبيه،
nindex.php?page=hadith&LINKID=688148أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل الله كل ليلة إلى السماء الدنيا، فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ حتى يطلع الفجر». [ ص: 122 ]
وروى
عبد الله بن بكر، حدثنا
هشام بن أبي عبد الله، عن
nindex.php?page=showalam&ids=17298يحيى بن أبي كثير، عن
أبي جعفر، أنه سمع
nindex.php?page=showalam&ids=3أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
nindex.php?page=hadith&LINKID=885491«إذا بقي ثلث الليل ينزل الله تبارك وتعالى، فيقول: من ذا الذي يدعوني أستجب له؟ من ذا الذي يستكشف الضر فأكشف عنه؟ من ذا الذي يسترزقني فأرزقه؟ [ ص: 123 ] حتى ينفجر الفجر».
وروى
عبد الله بن بكر السهمي، حدثنا
هشام بن أبي عبد الله، عن
nindex.php?page=showalam&ids=17298يحيى بن أبي كثير، عن
هلال بن أبي ميمونة، حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=16572عطاء بن يسار، أن
رفاعة الجهني حدثه قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=658842قفلنا مع [ ص: 124 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كنا بالكديد، أو قال بقديد، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «إذا مضى ثلث الليل، أو قال ثلثا الليل نزل الله إلى السماء، فيقول الله: من ذا الذي يدعوني أستجب له؟ من ذا الذي يستغفرني أغفر له؟ من ذا الذي يسألني أعطه، حتى ينفجر الفجر».
دليل آخر: وقال الله:
يخافون ربهم من فوقهم [النحل: 50] وقال:
تعرج الملائكة والروح إليه [المعارج: 4] وقال:
ثم استوى إلى السماء وهي دخان [فصلت: 11] وقال:
ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا [الفرقان: 59] وقال:
ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع [السجدة: 4] فكل ذلك يدل على أنه تعالى في السماء مستو على عرشه، والسماء
[ ص: 125 ] بإجماع الناس ليست الأرض، فدل على أنه تعالى منفرد بوحدانيته، مستو على عرشه».
قلت: قوله منفرد بوحدانيته هو نظير قول
nindex.php?page=showalam&ids=13464«ابن كلاب» المتقدم. ثم قال: «دليل آخر، وقال عز وجل:
وجاء ربك والملك صفا صفا [الفجر: 22] وقال:
هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام [البقرة: 210] وقال:
ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى [النجم: 8-18] وقال عز وجل، لعيسى ابن مريم عليه السلام
إني متوفيك ورافعك إلي [آل عمران: 55] وقال:
وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه [النساء: 157-158]
وأجمعت الأمة على أن الله رفع عيسى إلى السموات، ومن دعاء أهل الإسلام جميعا إذا هم رغبوا إلى الله في الأمر النازل بهم، يقولون جميعا يا ساكن العرش. ومن حلفهم جميعا: لا والذي احتجب بسبع سموات.
دليل آخر: وقال الله عز وجل:
[ ص: 126 ] وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء [الشورى: 51] وقد خصت الآية البشر دون غيرهم، ممن ليس من جنس البشر، ولو كانت الآية عامة للبشر وغيرهم، كان أبعد من الشبهة، وإدخال الشك على من يسمع الآية أن يقول: ما كان لأحد أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا، فيرتفع الشك والحيرة، من أن يقول: ما كان لجنس من الأجناس أن أكلمه إلا وحيا، أو من وراء حجاب، أو أرسل رسولا، ويترك أجناسا لم يعمهم بالآية، فدل ما ذكرنا على أنه خص البشر دون غيرهم.
ودليل آخر: وقال الله عز وجل:
ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق [الأنعام: 62] وقال:
ولو ترى إذ وقفوا على ربهم [الأنعام: 30] وقال:
ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم [السجدة: 12] وقال عز وجل:
وعرضوا على ربك صفا [الكهف: 48] كل ذلك يدل على أنه ليس في خلقه، ولا خلقه فيه، وأنه مستو على عرشه، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
فلم يثبتوا له في وصفهم حقيقة، ولا أوجبوا له بذكرهم إياه وحدانيته، إذ كل كلامهم يؤول إلى التعطيل] ».
[ ص: 127 ]