وإذا كان المقتضي لجواز الرؤية، والمصحح للرؤية، والفارق بين ما تجوز رؤيته وبين ما لا تجوز: إما أن يكون وجودا محضا فلا حاجة بنا إلى تعيينه، سواء قيل هو مطلق الوجود، أو القيام بالنفس؛ أو بالعين بشرط المقابلة والمحاذاة أو غير ذلك مما يقال إنه مع وجوده تصح الرؤية ومع عدمه تمتنع؛ لكن المقصود أنه أمور وجودية.
وإذا كان كذلك فقد علم
أن الله تعالى هو أحق بالوجود وكماله من كل موجود؛ إذ وجوده هو الوجود الواجب، ووجود كل ما سواه هو من وجوده، وله الكمال التام في جميع الأمور الوجودية المحضة؛ فإنها هي الصفات التي بها يكون كمال الوجود. وحينئذ فيكون الله -وله المثل الأعلى- أحق بأن تجوز رؤيته لكمال وجوده. ولكن لم نره في الدنيا لعجزنا عن ذلك وضعفنا، كما لا نستطيع التحديق في شعاع الشمس؛ بل كما
[ ص: 432 ] لا يطيق الخفاش أن يراها: لا لامتناع رؤيتها؛ بل لضعف بصره وعجزه، كما قد لا يستطاع سماع الأصوات العظيمة جدا، لا لكونها لا تسمع؛ بل لضعف السامع وعجزه؛ ولهذا يحصل لكثير من الناس عند سماع الأصوات العظيمة ورؤية الأشياء الجليلة ضعف أو رجفان أو نحو ذلك مما سببه ضعفه عن الرؤية والسماع، لا لكون ذلك الأمر مما يمتنع رؤيته وسماعه؛ ولهذا وردت في الأخبار في قصة
موسى عليه الصلاة والسلام وغيره بأن الناس إنما لا يرون الله في الدنيا للضعف والعجز، والله سبحانه وتعالى قادر على أن يقويهم على ما عجزوا عنه. وتمام بسط هذا وتقريره له موضع آخر.
وإنما المقصود أن نقول:
إذا ثبتت رؤيته فمعلوم في بدائه العقول أن المرئي القائم بنفسه لا يكون إلا بجهة من الرائي، وهذه الرؤية التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=650521 "ترون ربكم كما [ ص: 433 ] ترون الشمس والقمر" فأخبر أن رؤيته كرؤية الشمس والقمر، وهما أعظم المرئيات ظهورا في الدنيا، وإنما يراهم الناس فوقهم بجهة منهم؛ بل من المعلوم أن رؤية ما لا يكون داخل العالم ولا خارجه ممتنع في بدائه العقول، وهذا مما اتفق عليه عامة عقلاء بني
آدم من السلف والأئمة وأهل الحديث والفقه والتصوف وجماهير أهل الكلام المثبتة والنافية
والفلاسفة ، وإنما خالف فيه فريق من أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=13711الأشعري ومن وافقهم من الفقهاء، كما قد يوافقهم القاضي
أبو يعلى في "المعتمد" هو وغيره، ويقولون ما قاله أولئك في الرؤية: إنه يرى لا في جهة. ويلتزمون ما اتفق أهل العقول على أنه من
[ ص: 434 ] الممتنع في بدائه العقول؛ بل يقولون: إن المعلوم ببدائه العقول أنه لا يرى إلا ما هو متحيز أو قائم بمتحيز، ومن ادعى رؤية ما ليس بمتحيز ولا قائما بمتحيز فقد خرج عن ضرورات العقول باتفاق عقلاء بني
آدم من جميع الطوائف؛ إلا هذا الفريق الذي اتفق الناس على تناقضهم؛ فإن موافقيهم من
الجهمية الفلاسفة والمعتزلة ونحوهم على إمكان وجود موجود ليس بمتحيز ولا حال فيه وعلى إمكان معرفة ذلك بالعقل -وإن كانوا عند جمهور العقلاء مخالفين لضرورة العقل- فإنهم لا يوافقونهم على أن من كان كذلك فإنه يرى؛ بل هؤلاء يوافقون جمهور العقلاء في أن
ما لا يكون متحيزا ولا حالا في متحيز لا يمكن رؤيته، حتى إن أئمة أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=13711الأشعري المتأخرين
كأبي [ ص: 435 ] حامد، وابن الخطيب وغيرهما لما تأملوا ذلك عادوا في الرؤية إلى قول
المعتزلة أو قريب منه، وفسروها بزيادة العلم كما يفسرها بذلك
الجهمية والمعتزلة وغيرهم، وهذا في الحقيقة تعطيل للرؤية الثابتة بالنصوص والإجماع، المعلوم جوازها بدلائل المعقول، بل المعلوم بدلائل العقول امتناع وجود موجود قائم بنفسه لا يمكن تعلقها به؛ لكن هؤلاء المثبتة الذين وافقوا عامة المؤمنين على إمكان رؤيته وانفردوا عن الجماعة بأنه يرى لا فوق الرائي ولا عن يمينه ولا عن شماله ولا في شيء من جهاته هم قد وافقوا أولئك
الجهمية في وجود موجود يكون كذلك، فموافقتهم لهؤلاء في إمكان وجود موجود بهذا الوصف أبعد عن الشرع والعقل من قولهم تمكن رؤية هذا الموجود؛ ولهذا تنكر الفطر وجوده أعظم مما تنكر رؤيته بتقدير وجوده. كما قد ذكرنا أن قولهم: هو فوق العرش وليس بجسم أقرب من قولهم: لا داخل العالم ولا خارجه.