وأما
"الأشعرية" فراموا الجمع بين الاعتقادين، أعني بين انتفاء الجسمية وبين جواز الرؤية لما ليس بجسم بالحس فعسر ذلك عليهم، ولجؤوا في ذلك إلى حجج سوفسطائية مموهة، أعني الحجج التي توهم أنها حجج وهي كاذبة، وذلك أنه يشبه أن يكون في الحجج ما يوجد في الناس، أعني أنه كما يوجد في الناس الفاضل التام الفضيلة فيوجد فيهم من هو دون ذلك في الفضل، ويوجد فيهم من يوهم أنه فاضل وليس بفاضل، وهو المرائي، وكذلك الأمر في الحجج، أعني أن منها ما هو في غاية اليقين، ومنها ما هو دون اليقين، ومنها حجج مرائية، وهي التي توهم أنها يقين وهي كاذبة. والأقاويل التي سلكها
الأشعرية في هذه المسألة منها أقاويل في
[ ص: 439 ] دفع دليل
المعتزلة ، ومنها أقاويل لهم في إثبات جواز الرؤية لما ليس بجسم، وأنه ليس يعرض من فرضها محال.
فأما ما عاندوا به قول
المعتزلة "أن كل مرئي فهو في جهة من الرائي" فمنهم من قال: إن هذا إنما حكم الشاهد لا حكم الغائب، وإن هذا الموضع ليس هو من المواضع التي يجب فيها نقل حكم الشاهد إلى الغائب، وإنه جائز أن يرى الإنسان ما ليس في جهة إذا كان جائزا أن يرى الإنسان بالقوة المبصرة نفسها دون عين، وهؤلاء اختلط عليهم إدراك العقل مع إدراك البصر، فإن العقل هو الذي يدرك ما ليس في جهة -أعني في مكان- وأما إدراك البصر فظاهر من أمره أن من شرطه أن يكون المرئي منه في جهة -أعني في مكان- ولا في كل جهة فقط، بل في جهة ما مخصوصة، ولذلك ليس تتأتى الرؤية بأي وضع اتفق أن يكون البصر من المرئي؛ بل بأوضاع محدودة وشروط محدودة أيضا، وهي ثلاثة أشياء: حضور الضوء، والجسم الشفاف المتوسط بين البصر [والمبصر ] وكون
[ ص: 440 ] المبصر ذا ألوان [ضرورة ] والرد لهذه الأمور المعروفة بنفسها في الأبصار هو رد للأوائل المعلومة بالطبع للجميع، وإبطال لجميع علوم المناظر والهندسة.
وقد قال القوم -أعني
"الأشعرية" - إن أحد المواضع التي يجب أن ينقل فيها حكم الشاهد إلى الغائب هو الشرط، مثل حكمنا أن كل عالم حي لكون الحياة تظهر من الشاهد شرطا في وجود العالم [وإن كان ذلك ] قلنا لهم: وكذلك يظهر في الشاهد أن هذه الأشياء هي شروط في الرؤية، فألحقوا الغائب منها بالشاهد على أصلكم.