فصل
قال
أبو عبد الله الرازي ("المقدمة الثانية": اعلم أنه ليس كل موجود يجب أن يكون له نظير وشبيه، وأنه ليس يلزم من نفي النظير والشبيه نفي ذلك الشيء ) واحتج عليه بثلاث حجج ثم قال: (فظهر فساد
قول من يقول لا يمكننا أن نعقل وجود موجود لا يكون متصلا بالعالم ولا منفصلا عنه إلا إذا وجدنا له نظيرا، فإن عندنا الموصوف بهذه الصفة ليس إلا الله [سبحانه وتعالى ] وبينا أنه لا يلزم من عدم النظير والشبيه عدم الشيء. فثبت أن هذا الكلام ساقط بالكلية ).
قلت: نفي النظير والمثل الكفء والسمي ونحو ذلك عن
[ ص: 485 ] الله سبحانه وتعالى متفق عليه بين المسلمين الذين يؤمنون بالقرآن، وقد بينا فيما تقدم بالدلائل القاطعة الشرعية والعقلية أنه يمتنع أن يكون لله مثل بوجه من الوجوه وبينا أن التماثل بينه وبين خلقه ممتنع لذاته، وأنه يستلزم كون الشيء الواحد موجودا معدوما قديما محدثا خالقا مخلوقا واجبا ممكنا. والحجج الثلاثة التي ذكرها
الرازي في هذا المطلوب ضعيفة كما سنبينه إن شاء الله، وإن كانت هذه المقدمة في نفسها حقا إذا فسرت بما يوافق الكتاب والسنة والعقل الصريح؛ فإن هذا الرجل كثيرا ما يقول الحق، ولكن تكون الحجج التي يقيمها عليه ضعيفة، وكثيرا ما يقول ما ليس بحق، وكثيرا ما يتناقض، وهو في هذه المقدمة لم يثبت نفي الشبيه والنظير عن الله تعالى، ولكن أراد أن يثبت أنه لا يجب أن يكون لكل موجود نظير وشبيه، فأثبت سلب هذا العموم؛ لم يثبت نفي النظير عن الله تعالى ومتى ثبت نفي المثل عن الله تعالى ثبت سلب هذا العموم؛ لانتقاض هذه
[ ص: 486 ] القضية العامة الكلية، ولا يلزم من ثبوت نقيض هذه القضية وسلبها ثبوت نفي المثل عن الله، فإنه
إذا لم يجب أن يكون لكل موجود نظير لم يلزم من ذلك عدم وجود النظير لكل موجود، إذ نفي الوجوب لا ينفي الوجود. ولو ثبت أن في الموجودات ما لا نظير له بل ما يجب نفي النظير عنه لم يثبت بمجرد هذا الإبهام أنه الله إلا بدليل آخر، فكيف إذا لم يثبت إلا مجرد عدم وجوب النظير لكل موجود.
وإذا عرف مضمون هذه المقدمة فإنما استفاد بها قوله: (فثبت فساد قول من يقول إنه لا يمكننا أن نعقل وجود موجود لا يكون متصلا بالعالم ولا منفصلا عنه إلا إذا وجدنا له نظيرا ).
وإذا كان هذا هو الذي استفاده بهذه المقدمة فينبغي أن يعلم أن هذا الكلام لا يقوله من يجزم بقول، ولا يقوله أحد من أهل الأقوال المعتبرة، وما أعلم أحدا يقوله ممن يذكر له قول؛ لكن لعله قد قاله بعض الجهال بالمذاهب والدلائل وأهل الريب والشك في ذلك، وذلك أن المنازعين له عندهم يعلم بضرورة العقل ونظره امتناع وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه وإذا كان هذا ممتنعا عندهم لم يجز أن يكون لهذا الممتنع نظير،
[ ص: 487 ] ولم يجز أن يقول عاقل إن هذا الممتنع لا أعقله إلا إذا كان له نظير؛ فإن هذا يكون تعليقا لعقله على وجود نظيره، ويكون عاقلا له إذا كان له نظير، ومتى جوز وجود نظيره لم يكن هو في نفسه ممتنعا عنده. والقائل لهذا إن كان يعتقد امتناع هذا لم يجوز أن يكون له في نفسه وجود؛ فضلا عن أن يجوز وجود نظير له. وإن كان يعتقد إمكانه لم يحتج عقله له إلى وجود نظير؛ لكن قد يقول هذا من لا يعلم امتناعه ولا إمكانه، ويقول أنا لا أعقل شيئا إلا شيئا له نظير. فهذه المقدمة تبطل هذا القول لو كان أقام حجة صحيحة عليها.