والمقصود هنا أن
التوحيد الذي أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله وهو المذكور في الكتاب والسنة وهو المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام ليس هو هذه الأمور الثلاثة التي ذكرها هؤلاء المتكلمون، وإن كان فيها ما هو داخل في
[ ص: 138 ] التوحيد الذي جاء به الرسول فهم مع زعمهم أنهم موحدون ليس توحيدهم التوحيد الذي ذكر الله ورسوله، بل التوحيد الذي يدعون الاختصاص به باطل في الشرع والعقل واللغة؛ وذلك أن توحيد الرسل والمؤمنين هو عبادة الله وحده، فمن عبد الله وحده لم يشرك به شيئا فقد وحده، ومن عبد من دونه شيئا من الأشياء فهو مشرك به ليس بموحد مخلص له الدين، وإن كان مع ذلك قائلا بهذه المقالات التي زعموا أنها التوحيد حتى لو أقر بأن الله وحده خالق كل شيء وهو التوحيد في الأفعال الذي يزعم هؤلاء المتكلمون أنه يقر أنه لا إله إلا هو، ويثبتون بما توهموه من دليل التمانع وغيره لكان مشركا، وهذه حال مشركي العرب الذين بعث الرسول إليهم ابتداء ونزل القرآن ببيان شركهم ودعاهم إلى توحيد الله وإخلاص
[ ص: 139 ] الدين له؛ فإنهم كانوا يقرون بأن الله وحده هو الذي خلق السموات والأرض كما أخبر الله بذلك عنهم في القرآن، كما في قوله:
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله [لقمان 25] وفي قوله:
قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون [المؤمنون 84-89] .
وقال تعالى:
وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون [يوسف 106]، قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس: تسألهم من خلق السموات والأرض فيقولون الله وهم مع هذا يعبدون غيره! فهذا الشرك المذكور في القرآن في مواضع كثيرة المضاد للإخلاص والتوحيد كما في حديث
nindex.php?page=showalam&ids=36جابر nindex.php?page=showalam&ids=12وابن [ ص: 140 ] عمر وسعد وغيرهم، وقد بسطنا الكلام في هذا في غير هذا الموضع.
والتوحيد الذي جاء به الرسول يتناول التوحيد في العلم والقول وهو وصفه بما يوجب أنه في نفسه أحد صمد لا يتبعض ويتفرق، فيكون شيئين وهو واحد متصف بصفات تختص به ليس
[ ص: 141 ] له فيها شبيه وكفؤ.
والتوحيد في الإرادة والعمل وهو عبادته وحده لا شريك له، وقد أنزل الله سورتي الإخلاص
قل يا أيها الكافرون [الكافرون 1] و
قل هو الله أحد [الإخلاص 1] الواحدة في توحيد العمل؛ ولهذا كان القول فيها
لا أعبد ما تعبدون [الكافرون 2] وهي جملة إنشائية فعلية والأخرى في توحيد العلم، وهي قوله
قل هو الله أحد [الإخلاص 1]؛ ولهذا كان القول فيها جملة خبرية اسمية والكلام إما إنشاء وإما إخبار؛ فالإخبار يكون عن العلم والإنشاء يكون عن الإرادة؛ ولهذا قال الله تعالى :
وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم [البقرة 163] .
وقال:
قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون [الأنبياء 108] .
وقال:
قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد [الكهف 110] .
وقال:
وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد [النحل 51] .
وقال:
أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم [ص 5-6] وفي القرآن من نفي
[ ص: 142 ] الألوهية عن غيره من المخلوقات وإثباتها له وحده ما لا يحصى إلا بكلفة؛ كقوله:
فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين [الشعراء 213]
ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه [القصص 88]
رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا [المزمل 9]
ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا [الكهف 14-15]
لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا [الإسراء 22]
فاعلم أنه لا إله إلا الله [محمد 19]
إنهم كانوا إذا، قيل لهم: لا إله إلا الله يستكبرون [الصافات 35] ونحو ذلك مما يتضمن وحدانية في الإلهية؛ فلا يجوز أن يكون إله معبود إلا هو.
والإلهية تتضمن استحقاقه للعبادة والدعاء لا أنها بمعنى القدرة على الاختراع كما يذكر ذلك عن
nindex.php?page=showalam&ids=13711الأشعري؛ فإن هذا هو الربوبية التي كان المشركون يقرون بها.