وهذا يتقرر بالوجه الحادي عشر، وهو أن يقال: ما قاله المنازع في مقدمة الكتاب مثل قوله: الإنسان إذا تأمل في أحوال الأجرام السفلية والعلوية وتأمل في صفاتها فذلك له قانون، فإذا أراد أن ينتقل منها إلى معرفة الربوبية وجب أن يستحدث لنفسه فطرة أخرى ومنهجا آخر وعقلا آخر بخلاف العقل الذي اهتدى به إلى معرفة الجسمانيات وتقريره لما ذكره عن معلم
الصابئة المبدلين
أرسطو؛ حيث قال من أراد أن يشرع في المعارف الإلهية فليستحدث لنفسه فطرة أخرى
[ ص: 504 ] فيقال له: قولك إذا أشرنا إلى نقطة لا تنقسم، فإما أن يحصل فوقها شيء آخر، أولا يحصل. هذا هو العقل الذي يهتدي به إلى معرفة الجسمانيات، فإن الكلام في النقطة والخط وما يتبع ذلك من علم الهندسة وهو متعلق بمقادير الأجسام فإن كان مثل هذا الدليل حقا في أمر الربوبية بطلت تلك المقدمة التي قررت فيها أنه لا ينظر في الأمور الإلهية بالعقل الذي به تعرف الجسمانيات، وإذا بطلت صح قول منازعك أن
وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه ممتنع. ومتى بطلت كان قول منازعك معلوما بالبديهة والفطرة الضرورية التي لا معارض لها؛ حيث لم يعلم فسادها إلا إذا بطل حكم العقل الذي به تعرف الجسمانيات في أمر الربوبية. وإذا كان هذا الدليل - لما أنه متعلق بالجسمانيات - لا يجوز الاستدلال بمثله في أمر الربوبية فقد بطل هذا الدليل ولم يكن
[ ص: 505 ] لك طريق إلى إفساد قول من يقول إنه فوق العالم وفوق العرش، وإنه مع ذلك ليس بمركب ولا مؤلف أو يقول ليس بجسم كما ذكرنا القولين فيما تقدم.