فإذا كان هؤلاء الشرذمة الذين فيهم من التجهم ما فيهم مثل
الرازي وأمثاله يقرون بأن الله يرى كان إقرارهم بأن الله فوق العالم أولى وأحرى؛ فإنه لا يرد على مسألة العلو سؤال إلا ويرد على
مسألة الرؤية ما هو أعظم منه.
ولا يمكنهم أن يجيبوا لمن يناظرهم في مسألة الرؤية بجواب إلا أجاب من يناظرهم في مسألة العرش بخير منه؛ فإن نفاة الرؤية قالوا: إن أحد حججهم: الواحد منا لا يرى إلا ما يكون مقابلا للرائي أو لآلة الرائي، والله يستحيل أن يكون كذلك، فيستحيل أن يكون مرئيا لنا.
قالوا: واحترزنا بقولنا: أو لآلة الرائي عن رؤية الإنسان وجهه في المرآة أما المقدمة الأولى فهي من العلوم
[ ص: 532 ] الضرورية الحاصلة بالتجربة، وأما المقدمة الثانية فمتفق عليها.
احتجوا بهذه الحجة وبحجة الموانع، وهو أنه لو صحت رؤيته لوجبت رؤيته الآن لارتفاع موانع الرؤية وثبوت شروطها؛ وهي صحة الحاسة، وحضور المرئي، وأن لا يكون في غاية الصغر واللطافة، ويكون مقابلا للرائي أو لآلة الرؤية، ولا تكون الحجب حاصلة. وزعموا أن هذه الشروط متى وجدت وجبت الرؤية، وإذا انتفى بعضها امتنعت الرؤية.
قال
الرازي: وهاتان الطريقتان يعني حجة الموانع،
[ ص: 533 ] وحجة المقابلة - عليهما تعويل
المعتزلة في العقليات، يعني في مسألة نفي رؤية الله تعالى.
وقال في الجواب عن هذه الحجة من وجوه ثلاثة:
الأول: ما بينا فيما مضى أن المقابلة ليست شرطا لرؤيتنا لهذه الأشياء، وأبطلنا ما ذكروه من دعوى الضرورة والاستدلال في هذا المقام.
الثاني: سلمنا أن المقابلة شرط في صحة رؤيتنا لهذه الأشياء، فلم قلتم إنها تكون شرطا في صحة رؤية الله تعالى؟ فإن رؤية الله تعالى بتقدير ثبوتها مخالفة لرؤية هذه
[ ص: 534 ] الأشياء، فلا يلزم من اشتراط في رؤية نوع من جنس اشتراط رؤية نوع آخر من ذلك الجنس بذلك الشرط.
الثالث: سلمنا أنه يستحيل كوننا رائين الله تعالى ولكنه لا يدل على أنه لا يرى نفسه وأنه في ذاته ليس بمرئي لا يقال ليس في الأمة أحد، قال: إنه يصح أن يكون مرئيا مع أنه يستحيل منا رؤيته، فيكون مردودا بالإجماع لأنا نقول: إنا لا نسلم أن أحدا من الأمة لم يقل بذلك فإن أصحاب المقالات قد حكوا ذلك عن جماعة.
وهو قد ذكر قبل في مسألة كون الله سميعا بصيرا من
[ ص: 535 ] دعوى الضرورة في هذه الأمور، ومن مقابلة الدعوى بالمنع ما هو أعظم مما يكون في مسألة العرش.