ومما يوضح الأمر في ذلك أن هذا السؤال الذي ذكره من جهة المنازع هو من باب المعارضة؛ فإنه لما ذكر حجته على أنه ليس بذي جهة بأن ذلك يستلزم التركيب والحقارة، قال له المعارض:
ما ذكرته من أنه لا يمكن إحساسه والإشارة إليه يستلزم أن يكون معدوما؛ وذلك أبلغ في الحقارة من الجوهر الفرد، فقال له: قولك يستلزم من الحقارة أعظم مما ألزمت به أهل الإثبات، فأجاب عن المعارضة بمنع الحكم وأن صحته ملازمة لصحة قول المنازع، وهذا من أفسد الأجوبة؛ فإن المعارض يقول: بل هو عندي ذو حيز ومقدار، فلم قلت: إنه ليس كذلك؟ وهل النزاع إلا فيه؟! وقولك: أما إذا لم يكن ذا حيز ومقدار لم يلزم وصفه بالحقارة، يقال لك: من الذي سلم لك ذلك؟! وهل النزاع إلا فيه؟! وهذه الحجة التي ذكرتها إنما أقمتها
[ ص: 570 ] على نفي ذلك وهي لا تتم إلا بالجواب على المعارضة، فكيف تجيب عن المعارضة المستلزمة لنقيض مذهبك بنفس مذهبك؟! وهل هذا إلا بمنزلة أن يقدح المعترض في دليلك بأنه يستلزم نقيض مذهبه؟!
فإن قيل: هو لم يجب عن المعارضة بنفس مذهبه، لكن قال: صحة المعارضة مبنية على نقيض مذهبه، وهو لا يقول ذلك، فهو يقول للمعترض: ما لم تثبت نقيض قولي لا تصح معارضتك، وهو في هذا الباب في مقام المنع، والمعترض يستدل وللمستدل الأول أن يمنعه بعض المقدمات، ويجعل سند منعه أنه لا يقول بذلك، فهو ذكر ذلك لإبداء سند المنع لا حجة للمنع؛ فإن المانع المطالب بالدليل ليس عليه حجة.
فيقال: المعترض لم يبن دليله على هذا، بل ذكر أن ما لا يحس ولا يشار إليه معدوم أحقر من الجزء الذي لا يتجزأ، فادعيت أن هذا إنما يلزم إذا كان منزها عن الحيز والمقدار فلم يلزم وصفه بالحقارة؛ فهذا الملزوم إنما تقول إنه لازم لدليله
[ ص: 571 ] أن دليله مستلزم لهذا، فمتى صح دليله هذا فهذا القدر ينفعه ولا يضره؛ لأنه يكون دليله حينئذ قد دل على شيئين على أنك جعلته أحقر من الجوهر الفرد وجعلته معدوما، وأنه ذو حيز ومقدار، فيدل على صحة مذهبه، وعلى أن مذهبك يستلزم أن الله معدوم. هذا بإقراره أن دليله يستلزم صحة ذلك.
وإن قلت: إن دليله يتوقف على صحة هذا بمعنى أنه لم يثبت أن الله ذو حيز ومقدار لم يثبت أنه إذا كان يحس ولا يشار إليه أنه أصغر من الجوهر الفرد، فهذا لم تثبته بل ادعيته دعوى ساذجة، فلا تكون قد أجبت عن المعارضة، وهو المطلوب، وذلك أنه لا يسلم أنا إذا علمنا أن الشيء لا يحس ولا يشار إليه لم يعلم أنه معدوم حتى يعلم قبل ذلك أنه ذو حيز ومقدار، بل قد يكون العلم بأنه ذو حيز ومقدار بعد ذلك أو قبله أو معه إذا كانا متلازمين.
وهذا لازم على أصلك وأصل أصحابك لزوما قويا؛ فإنكم
[ ص: 572 ] أنتم وسائر
الصفاتية تسلمون أن كل موجود فإنه يمكن أن يحس، وأن الذي لا يمكن إحساسه هو المعدوم - وكثير من أهل السنة والحديث يقولون بأنه يلمس أيضا - وأنتم تريدون أنه يدرك بالحواس الخمس، وأنتم تثبتون هذا مثل إثبات أنه ذو حيز ومقدار، ولم يكن العلم بذلك موقوفا على العلم بأنه ذو حيز ومقدار.
وإذا كنت قد قلت: إن كونه موصوفا بأنه أحقر من الجوهر الفرد، فإذا كان لا يحس ولا يشار إليه فقد لزمك إما أن يكون معدوما أو يكون ذا حيز ومقدار، وإذا قلت: إنه يحس بطل ما ذكرته هنا من أنه لا يحس ولا يشار إليه.
وهذا الذي يورده المنازع حمد في النظر الصحيح في المناظرة العادلة؛ فإنه يظهر به من تناقض منازعه وضعف
[ ص: 573 ] حجة ما يدفعه به عنه، ويظهر به من صحة حجته ما ينفع الناظر والمناظر.