فأما الحيز فلفظه في اللغة يقتضي أنه ما يحوز الشيء ويجمعه ويحيط به؛ ولذلك قد يقال على الشيء المنفصل عنه كداره وثوبه ونحو ذلك، وقد يقال لنفس جوانبه وأقطاره إنها
[ ص: 609 ] حيزه، فيكون حيزه بعضا منه.
وهذا كما أن لفظ الحدود التي تكون للأجسام؛ فإنهم تارة يقولون في حدود العقار حده من جهة القبلة ملك فلان، ومن جهة الشرق ملك فلان، ونحو ذلك. فهنا حد الدار هو حيزها المنفصل عنها، وقد يقال: حدها من جهة القبلة ينتهي إلى ملك فلان ومن جهة الشرق ينتهي إلى ملك فلان، فحدها هنا آخر المحدود ونهايته، وهو متصل ليس منفصلا عنه، وهو أيضا حيزه، وقد جاء في كتاب الله تعالى في موضع:
تلك حدود الله فلا تقربوها [البقرة 187] والحدود هنا هي نهايات المحرمات وأولها، فلا يجوز قربان شيء من المحرم، وفي موضع:
تلك حدود الله فلا تعتدوها [البقرة 229]، والحدود هنا نهايات الحلال، فلا يجوز تعدي الحلال.
[ ص: 610 ] وإذا كان هذا هو المعروف من
لفظ الجهة والحيز في الموجودات المخلوقة، فنقول: إذا قيل إن الخالق سبحانه في جهة، فإما أن يراد في جهة له أو جهة لخلقه، فإن قيل في جهة له، فإما أن تكون جهة يتوجه منها أو جهة يتوجه إليها، وعلى التقديرين،
فليس فوق العالم شيء غير نفسه فهو جهة نفسه سبحانه لا يتوجه منها إلى شيء موجود خارج العالم ولا يتوجه إليها من شيء موجود خارج العالم، وليس هناك شيء موجود غير نفسه يتوجه منه ولا يتوجه إليه. ومن قال إن العالم هناك ليس في جهة بهذا الاعتبار فقد صدق، ومن قال إنه جهة نفسه بهذا الاعتبار فقد قال معنى صحيحا، ومن قال إنه فوق المخلوقات كلها في جهة موجودة يتوجه إليها أو يتوجه منها خارجة عن نفسه فقد كذب.
وإن أريد بما يتوجه منه أو يتوجه إليه ما يراد بالحيز الذي هو تقدير المكان، فلا ريب أن هذا عدم محض.
وأما الحيز فقد يحوز المخلوق جوانبه وحدود ذاته، وقد يحوزه غيره، فمن قال إن الباري فوق العالم كله يحوزه شيء موجود ليس هو داخلا في مسمى ذاته فقد كذب، فإن كل ما هو خارج عن نفس الله التي تدخل فيها صفاته فإنه من العالم. ومن
[ ص: 611 ] قال إن حيزه هو نفس حدود ذاته ونهايتها، فهنا الحيز ليس شيئا خارجا عنه.
وعلى كل تقدير، فمن قال: إنه فوق العالم لم يقل إنه في حيز موجود خارج عن نفسه ولا في جهة موجودة خارجة عن نفسه، وإذا كان صاحب المذهب يصرح بنفي ذلك، فالاحتجاج على أنه ليس في حيز موجود، احتجاج في غير محل النزاع فلا يضر ذلك المنازع .