وأما قوله: ما سبب الاختصاص بهذا الأمر العدم؟ فسيأتي الكلام عليه.
وهؤلاء يقولون: قوله في الوجه الثالث: لو جاز في شيء مختص بجهة معينة أن يقال اختصاصه بتلك الجهة واجب جاز أيضا ادعاء أن بعض الأجسام حصل في حيز معين على سبيل الوجوب، وعلى هذا لا يتمشى دليل حدوث العالم، فثبت أن القائل بهذا القول لا يمكنه الجزم بحدوث كل الأجسام، بل يلزمه تجويز أن يكون بعضها قديما، فهم يجيبون بجوابين:
أحدهما: أن
الأجسام مختلفة بالحقيقة، فلا يلزم من اختصاص بعضها بصفة معينة أن يكون غيره مختصا بمثل تلك الصفة، كما أنه عندهم إذا اختص بسائر صفاته الذاتية لم يلزم أن يكون غيره مختصا بغيره.
[ ص: 808 ] الثاني: أنهم إذا قالوا بأن بعض الأجسام الباقية مختص بحيز معين إنما يبطل الدليل الذي ذكره منازعوهم، ولا ريب في بطلان هذا الدليل عندهم كما اتفق السلف والأئمة على أنه من الكلام المنهي عنه، ومن قال من هؤلاء إنه جسم لم ينكر أن الأجسام كلها ليست محدثة، كما لا ينكر أن القائمات بأنفسها كلها ليست محدثة، وأن الموصوفات كلها ليست محدثة، بل يضلل من يطلق العموم بحدوث الأجسام، كما يضلل من أطلق القول بحدوث الموصوفات والقائمات بأنفسها أو الموجودات.
ويقولون: قوله في الوجه الرابع: إنا نعلم بالضرورة أن
الأحياز بأسرها متساوية؛ لأنها فراغ محض وخلاء صرف، وذلك يمنع وجوب الاختصاص ببعضها، فهم يقولون: ليس الاختصاص لمعنى فيها، بل هو لمعنى في نفسه، وهو امتناع الحركة عليه والانتقال عنه، كما يوافقهم هو على ذلك، وأيضا فالعالم مختص بحيزه لمعنى فيه لا في حيزه.
وأما السؤال الذي أوردهم من جهتهم: لم لا يجوز أن يكون اختصاصه بجهة فوق أولى، وجوابه: بأنه قبل خلق العالم
[ ص: 809 ] ما كان إلا الخلاء الصرف، وبأنه لو كان الفوقاني متميزا عن التحتاني لكانت وجودية. فإنهم يقولون: كونه فوق العالم إنما يظهر إذا خلق العالم؛ فإنه لما خلقه وهو على علو يستحقه بنفسه وخلق العالم بصفة التحت؛ وجب أن يكون فوق العالم لمعنى في نفسه وفي العالم لا لمعنى وجودي في الحيز، وإن لم يكن قبل خلق العالم ولا فوق العالم إلا العدم المحض والخلاء الصرف؛ فالاختصاص بالحيز لامتناع الحركة عليه عندهم ووجوب علوه لمعنى في نفسه وفي العالم.