وأما المقام الثاني فالكلام فيه من وجوه:
أحدها
قولك: والجانب الذي يحاذي يمين العرش إما أن يكون هو الجانب الذي يحاذي يساره أو غيره. يقال: لا نسلم الحصر، بل لا هو هو، ولا هو غيره. أو يقال: لا نقول: إنه هو ولا نقول: إنه غيره. فإن كثيرا من متكلمي الصفاتية أو أكثرهم
[ ص: 81 ] من
الكلابية والأشعرية وطوائف من الفقهاء وأهل الحديث
والصوفية منهم من يقول: الصفة لا هي الموصوف ولا هي غيره، ومنهم من يقول: أقول هي هو ولا أقول: هي غيره، ولا أقول: لا هي هو، ولا هي غيره.
وتوجيه الكلام أنه إما أن يريد بالغيرين ما جاز وجود أحدهما دون الآخر، أو ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بمكان أو زمان أو وجود أو يريد بالغيرين ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر. فإن أراد بالغيرين الأول لم يسلم أن هذا الجانب هو
[ ص: 82 ] ذاك الجانب ولا هو غيره إلا إذا بين جواز أحدهما دون الآخر، وهو يحتج بهذا الامتياز على جواز التفرق، فيكون هذا دورا باطلا، لأنه لا يثبت أنهما غيران بهذا التفسير حتى يثبت جواز انفصالهما، ولا يثبت جواز انفصالهما حتى يثبت أنهما غيران، وذلك دور.
وإن قيل في جوانب الأجسام المخلوقة إن هذا غير هذا فذلك لجواز وجود أحدهما دون الآخر،
والله سبحانه وتعالى صمد لا يجوز عليه التفرق والانفصال كما تقدم بيانه، وأن هذا الاسم يقتضي الاجتماع والقوة ويمنع التفرق والانفصال. وإذا كانت الصمدية واجبة له كان الاجتماع واجبا له، والافتراق ممتنعا على ذاته، وقد تقدم في ذلك كلام موجز.
ومن قال: الغيران ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بزمان أو مكان أو وجود فإنه قد يقول إن الصفات مثل العلم والقدرة والحياة ليست كل صفة هي الأخرى ولا هي غيرها لأن محل الصفات واحد.
وأما الحدود فقد يقولون: إن هذا الجانب فارق ذلك
[ ص: 83 ] الجانب في المكان، وإن كان لا يفارقه في الزمان والوجود. فقد يقال: إن هذا ليس بافتراق في المكان وهذه منازعات لفظية اصطلاحية.
وأيضا فإن المغايرة بين الصفة والموصوف وبين البعض والكل أبعد من المغايرة بين صفة وصفة وبعض وبعض، ولهذا يقولون: إن الواحد من العشرة ليس هو العشرة ولا غيرها، وأن يد الإنسان ليست هي الإنسان ولا غيره، وما يقولون إن الواحد من العشرة ليس هو الواحد الآخر ولا غيره، وأن يد الإنسان ليست هي رجله لا غيرها بل هي غيرها لجواز وجود أحدهما دون الآخر، بخلاف وجود الجملة دون أجزائها، فإنه ممتنع. وهذا فيما يجوز عليه التفرق من الأجسام المخلوقة. وأما الخالق سبحانه فلا يجوز عليه التفرق، فلا يقولون: إن هذا الجانب منه غير هذا الجانب، فيمنعون المقدمة الأولى.
وإن قال: أريد بالغير ما هو أعم من هذا، وهو ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر أو ما أمكن الإشارة الحسية إلى أحدهما دون الآخر أو ما أمكن رؤية أحدهما دون الآخر، كما قال من قال من السلف لمن سأله عن قوله تعالى:
لا تدركه الأبصار [الأنعام: 103] ألست ترى السماء؟ قال: بلى، قال:
[ ص: 84 ] فكلها ترى؟ قال: لا. قال: فالله أعظم. فيقال له: وإذا كان يمين الرب غير يساره بهذا التفسير، فقولك تكون ذات الله مركبة من الأجزاء. أتعني به ورود المتركب عليها بمعنى أن مركبا ركبها كما قال:
في أي صورة ما شاء ركبك [الانفطار: 8] أو أنها كانت متفرقة فتركبت؟ أم تعني أن اليمين متميزة عن اليسار وهو التركيب في الاصطلاح الخاص كما تقدم بيانه؟.
[ ص: 85 ] فإن أراد الأول لم يلزم ذلك وهو ظاهر، فإن الأجسام المخلوقة أكثرها ليس بمركب بهذا الاعتبار، فكيف يجب أن يقال: إن الخالق مركب بهذا الاعتبار، وهذا مما لا نزاع فيه، وهو يسلم أنه لا يلزم من التصريح بأنه جسم هذا التركيب، إذ عدم لزومه ظاهر.
وأما إن أراد بالتركيب " الامتياز " مثل امتياز اليمين عن شماله قيل له: هذا التركيب لا نسلم أنه يستلزم الأجزاء، فإن هذا مبني على إثبات الجزء الذي لا ينقسم، والنزاع فيه مشهور، وقد قررت أن الأذكياء توقفوا في ذلك، وإذا لم يثبت أن الأجسام المخلوقة فيها أجزاء بالفعل امتنع أن يجب ذلك في الخالق.
[ ص: 86 ] وأيضا فالقائلون بثبوت الأجزاء يعلمون أن الجسم البسيط لم يكن مركبا من الأجزاء، بمعنى أنها كونت ثم ركب منها، فيكون قوله: مركبا من الأجزاء امتياز شيء من شيء وغايته. أن يقال: امتياز بعض عن بعض، كما ورد عن طائفة من السلف التكلم بلفظ البعض.