الوجه الثاني: أن يقال: لا ريب أن مضمون هذه الحجة أنه لو كان على العرش لكان جسما عظيما، وإذا كان جسما وجب جواز التفرق عليه، وقد تقدم أن القائلين بأنه على العرش منهم من يمنع المقدمة الأولى، ومنهم من يمنع الثانية.
ثم يقال: قد أخبر الله تعالى في كتابه أنه " الصمد " وقد قال عامة السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم: إن
" الصمد " هو الذي لا جوف له وقالوا أمثال هذه العبارات التي تدل على أن معناه أنه لا يتفرق، واللغة تدل على ذلك، فإن هذا اللفظ وهو لفظ صمد يقتضي الجمع والضم، كما يقال: صمدت المال إذا جمعته، وقد قال من قال من حذاق أهل الكلام وغيرهم: إن
[ ص: 99 ] هذا تفسير المجسمة؛ لأن الأجسام نوعان: أجوف، ومصمت كالعظام منها أجوف ومنها مصمت، فالحجر ونحوه مصمت، قالوا: وهذا يقتضي أنه جسم مصمت لا جوف له.
وهذا يدل على أن صمديته تنافي جواز التفرق والانحلال عليه.
فلا يخلو إما أن تكون هذه الآية قد دلت على ذلك، أو لم تدل عليه، فإن كانت دلت على ذلك وعلى أنه مصمت لا جوف له يمتنع عليه التفرق بطل قولك إن كل جسم يصح عليه التفرق والانحلال، وإن لم تكن دلت على ذلك فأنت لم تذكر دليلا عقليا على امتناع التفرق عليه ولا نصا ولا إجماعا، وإذا كان كذلك لم تكن حجتك تامة، فإن هذه إحدى مقدمات الدليل، فإذا لم يكن مدلولا عليها لم يكن المذكور دليلا، وإذا لم يكن دليلا لم يصح نفي كونه جسما بهذا الدليل.
فإن قال: أنا أثبت امتناع التفريق عليه بالإجماع أو موافقة الخصم قيل له: الذي يوافقك على دليل وافقك على أنه مجتمع يمتنع عليه الافتراق ولم يوافقك على أنه لا يوصف باجتماع ولا افتراق، وحينئذ فهو يقول: أنا ما علمت امتناع الافتراق عليه إلا بوجوب اجتماعه، كما أني لم أعلم امتناع
[ ص: 100 ] الموت عليه إلا لوجوب حياته، ولم أعلم امتناع الجهل والعجز عليه إلا لوجوب علمه وقدرته، ولم أعلم امتناع العدم عليه إلا لوجوب وجوده، فإن نازعني منازع فيما أثبته وقال: ليس بمجتمع أو ليس بعالم، أو ليس بحي ولا قادر، أو ليس بموجود وطلب مني أن أوافقه على أنه لا يجوز عليه الافتراق والعدم والموت والجهل والعجز ونحو ذلك: كان قد طلب مني موافقته على امتناع أحد الضدين دون ثبوت الآخر الذي هو من صفات الكمال، أو الذي ليس هو من صفات النقص، أو الذي ليس هو عندي من صفات النقص، وكان حينئذ من جنس الملاحدة الذين يطلبون أن أوافقهم على أنه ليس بميت ولا عاجز ولا جاهل مع منازعتهم لنا في أنه حي عالم قادر.
ومن طلب الموافقة على ثبوت الشيء بدون لازمه ليحتج بذلك على نفي اللازم، لم يكن علينا أن نوافقه؛ بل لم يكن لنا أن نوافقه؛ فإن نفي اللازم يقتضي نفي الملزوم، فإذا وافقناه على ثبوت الملزوم كنا في الحقيقة موافقين له على نفي الملزوم الذي قد وافقناه في الظاهر على ثبوته، وإذا كانت الموافقة على ثبوت الشيء تقتضي نفيه لم تجز الموافقة عليه.
فإذا قال الملحد: أنتم توافقون على أنه ليس بميت ولا جاهل ولا عاجز وأنا لا أوافقك على أنه حي عالم قادر، وغرضه أن يستدل بنفي هذه الصفات على انتفائها وانتفاء أضدادها بأن يقول: كونه حيا عالما قادرا وميتا جاهلا عاجزا يقتضي أنه
[ ص: 101 ] موصوف بالحياة والموت والعلم والجهل والقدرة والعجز، وهذه أعراض، والموصوف بالأعراض يجب أن يكون ممكنا أو يكون جسما متحيزا، وذلك يقتضي حدوثه، وهو محال، لم يكن علينا أن نوافقه على ثبوت هذا السلب المستلزم لثبوت كونه حيا عالما قادرا مع منعه لذلك، فإن تحقق هذا السلب بدون هذا الإثبات محال، وليس علينا أن نوافقه على شيء يتوسل به إلى القول الباطل؛ بل ليس لنا ذلك إذا كان يتوسل به إلى إبطال حق علمناه، فإن هذه الموافقة مثل مصالحة الكفار على ما فيه فساد الإسلام، وهذا لا يجوز.