ومنها أنه يوجب انتفاء الجهة من بادئ الرأي عن الخالق سبحانه كونه ليس بجسم، فترجع الشريعة متشابهة، وذلك أن بعث الأنبياء ابتنى على أن الوحي نازل عليهم من السماء، وعلى ذلك انبنت شريعتنا هذه. أعني أن الكتاب العزيز نزل من السماء، كما قال تعالى:
إنا أنزلناه في ليلة مباركة [الدخان: 3] وانبنى نزول الوحي من السماء على أن الله في السماء، وكذلك كون الملائكة تنزل من السماء وتصعد إليها، كما قال:
إليه يصعد الكلم الطيب [فاطر: 10] وقال:
تعرج الملائكة والروح إليه [المعارج: 4].
وبالجملة جميع الأشياء التي تلزم القائلين بنفي الجهة على ما سنذكره بعد عند التكلم في الجهة.
ومنها أنه إذا صرح بنفي الجسمية، وجب التصريح بنفي
[ ص: 240 ] الحركة، فإذا صرح بنفي هذا عسر ما جاء في صفة الحشر، من أن الباري يطلع على أهل المحشر، وأنه الذي يلي حسابهم، كما قال تعالى:
وجاء ربك والملك صفا صفا [الفجر: 22] وكذلك يصعب
تأويل حديث النزول المشهور، وإن كان التأويل إليه أقرب منه إلى أمر الحشر، مع أن ما جاء في الحشر متواتر في الشرع. فيجب أن لا يصرح للجمهور بما يؤول عندهم إلى إبطال هذه الظواهر، فإن تأثيرها في نفوس الجمهور إنما هو إذا حملت على ظاهرها، وأما إذا أولت فإنما يؤول الأمر فيها إلى أحد أمرين: إما أن يسلط التأويل على هذه وأشباه هذه من الشريعة، فتتمزق الشريعة كلها، وتبطل الحكمة المقصودة منها. وإما أن يقال في هذه كلها: إنها من المتشابهات، وهذا كله إبطال للشريعة، ومحو لها من
[ ص: 241 ] النفوس، من غير أن يشعر الفاعل لذلك بعظيم ما جناه على الشريعة، مع أنك إذا اعتبرت الدلائل التي احتج بها المؤولون لهذه الأشياء تجدها كلها غير برهانية; بل الظواهر الشرعية أقنع منها -أعني أن التصديق بها أكثر- وأن تتبين ذلك من قولنا في البرهان الذي بنوا عليه نفي الجسمية، وكذلك يتبين ذلك في البرهان الذي بنوا عليه نفي الجهة على ما سنقوله بعد، وقد يدلك على أن الشرع لم يقصد التصريح بنفي هذه الصفة للجمهور عن النفس -أعني الجسمية- لم يصرح الشرع للجمهور بما هي النفس. فقال في الكتاب العزيز:
ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا [الإسراء: 85] وذلك أنه يعسر قيام البرهان عند الجمهور على وجود موجود قائم بذاته ليس بجسم، ولو كان انتفاء هذه الصفة مما يقف عليه الجمهور، لاكتفى بذلك الخليل
[ ص: 242 ] في محاجة الكافر حين قال:
ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت [البقرة: 258] الآية: لأنه كان يكتفي بأن يقول له: أنت جسم، والله ليس بجسم، لأن كل جسم محدث، كما يقول
الأشعرية، وكذلك كان يكتفي بذلك
موسى عليه السلام، عند محاجته لفرعون في دعواه الإلهية، وكذلك كان يكتفي صلى الله عليه وسلم في أمر الدجال، في إرشاد المؤمنين إلى كل ما يدعيه من الربوبية، في أنه جسم، والله ليس بجسم، بل قال عليه السلام:
nindex.php?page=hadith&LINKID=664537«إن ربكم ليس بأعور» فاكتفى
[ ص: 243 ] في الدلالة على كذبه بوجود هذه الصفة الناقصة، التي ينتفي عند كل أحد وجودها ببديهة العقل في الباري سبحانه. فهذه كلها كما ترى بدع حادثة في الإسلام، هي السبب فيما عرض فيه من الفرق، التي أنبأنا المصطفى صلى الله عليه وسلم أنها ستفترق أمته إليها.