فصل
ثم
قال الرازي: " الشبهة الرابعة: تمسكوا برفع الأيدي إلى السماء. قالوا: وهذا شيء يفعله جميع أرباب النحل، فدل على أنه تقرر في عقول جميع الخلق أن إلههم فوق.
ثم قال: الجواب: إن هذا معارض بما تقرر في عقول جميع الخلق أنهم عند تعظيم خالق العالم يضعون جباههم على الأرض، ولما لم يدل هذا على كون خالق العالم في الأرض لم يدل على ما ذكروه على أنه في السماء، وأيضا فالخلق إنما يقدمون على رفع الأيدي إلى السماء لوجوه أخر وراء اعتقادهم أن خالق العالم في السماء.
فالأول أن أعظم الأشياء نفعا للخلق ظهور الأنوار، وأنها إنما تظهر من جانب السماوات.
والثاني: أن مبنى حياة الخلق على استنشاق النفس، وليس ذلك الاستنشاق إلا من الهواء، والهواء ليس موجودا إلا فوق الأرض، فلهذا السبب كان ما فوق الأرض أشرف مما تحت الأرض.
[ ص: 482 ] الثالث: أن نزول الغيث من جهة الفوق، ولما كانت هذه الأشياء التي هي منافع الخلق إنما تنزل من جانب السماوات لا جرم كان ذلك الجانب عندهم أشرف، وتعلق الخاطر بالأشرف أقوى من تعلقه بالأخس. فهذا هو السبب في رفع الأيدي إلى السماء. وأيضا فإنه تعالى جعل العرش قبلة لدعائنا كما جعل القبلة قبلة لصلاتنا. وأيضا أنه تعالى جعل الملائكة وسائط في مصالح هذا العالم قال الله تعالى:
فالمدبرات أمرا [النازعات: 5] وقال:
فالمقسمات أمرا [الذاريات 4] وأجمعوا على أن
جبريل عليه السلام ملك الوحي والتنزيل والنبوة،
وميكائيل ملك الأرزاق، وملك الموت ملك الوفاة، وكذلك القول في سائر الأمور. وإذا كان الأمر كذلك لم يبعد أن يكون الغرض من رفع الأيدي إلى السماء رفع الأيدي إلى الملائكة.
وهذه الحجة ذكرها في " نهايته " فقال: " وثالثها: التمسك
[ ص: 483 ] بالاتفاق من الأمم المختلفة الآراء على الإشارة إلى فوق عند الدعاء وطلب الإجابة من الله، وأن ذلك يدل على علمهم الضروري بأن الذي يطلب منه تحصيل المطالب وتيسير العسير في تلك الجهة، ولهذا لما
nindex.php?page=hadith&LINKID=688410قال النبي صلى الله عليه وسلم للأمة: " أين ربك؟ قال: فأشارت إلى السماء، فقال: إنها مؤمنة".
وقال: والجواب عما تمسكوا به ثالثا من الإشارة إلى فوق سببه الإلف والعادة وجريان الناس على ذلك، فإنهم ما شاهدوا عالما قادرا حيا إلا جسما، فكما أن من لم يشاهد إلا إنسانا أسود فحين يمثل في نفسه إنسانا يخاطبه إنما يسبق إلى نفسه أنه أسود لا غير، ومن لم يسمع من اللغات إلا العربية فحين يمثل في نفسه معنى إنما سبق إلى نفسه التعبير عن ذلك المعنى بلفظ العرب، وكذلك سبق إلى الوهم أن من يدعو حيا عالما قادرا على ما يشاهد عليه الأحياء القادرين، ويتبع ذلك أنه في مكان، ولأن العلو أشرف، لأن الأنوار فيه، ولأن الرأس لما كان أشرف الأعضاء كان ما يليه أشرف الجهات، فيسبق إلى فهم الداعي أن من يعتقد عظمته إذا كان في جهة وجب أن يكون في جهة العلو، فلسبب هذه الأمور وأمثالها وقعت الإشارة
[ ص: 484 ] إلى السماء، ثم إن الأخلاف أخذوا ذلك عن الأسلاف مع مشاركتهم لهم في هذا التخيل، فظهر أن سبب ذلك هو الإلف فلا يكون صوابا. وأما حديث الأمة فهو من الآحاد ثم لو صح لكان سببه ما ذكرناه من الإلف ا هـ.
والكلام على ما ذكره من وجوه: