وقد أخبر عنهم بذلك في قوله
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله وفي قوله:
قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون [المؤمنون 84-92] فأخبر عن هؤلاء الذين نزه نفسه عن إشراكهم، وأخبر أنهم كاذبون في عدولهم عن الحق، الذي جاء به ورد عليهم أنه:
ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله أنه إذا سألهم:
لمن الأرض ومن فيها سيقولون لله وإذا سألتهم:
من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله وإذا سألتهم
من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله .
فالأول: إقرارهم بأن الأرض وما فيها لله.
والثاني: إقرارهم بأن السماوات السبع والعرش العظيم لله.
[ ص: 535 ] والثالث: إقرارهم بأن ملكوت جميع الأشياء بيده، وأنه الذي يمنع المخلوق وينصره فيجيره من الضرر والأذى، فيجير على من يشاء ولا يجير عليه أحد. فإذا أراد بأحد ضررا لم يمنعه مانع، وإذا رفع الضرر عن أحد لم يستطع أحد أن يضره، وفي كون ملكوت كل شيء بيده بيان أنه هو المدبر النافع له، فهو الذي يأتي بالمنفعة، وهو الذي يدفع المضرة. كما قال في الآية الأخرى:
قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته [الزمر: 38] وكما قال في الآية الأخرى:
وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله [يونس: 107].
وإذا كانوا مقرين بهذا فهذا إقرار منهم بعموم ربوبيته وتدبيره لكل شيء، وهو أعظم من إقرار
القدرية والصابئة والمتفلسفة الطبيعية ونحوهم ممن يجعل الرب لبعض الكائنات شيئا غير
[ ص: 536 ] الله، وهو مع هذا قد أخبر أنهم مشركون ونزه نفسه عن شركهم لكونهم عبدوا معه غيره، لا لكونهم اعتقدوا أن للعالمين ربا معه.
وكذلك قوله:
قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء [النمل: 59-60] إلى آخر الآيات يستفهم فيها كلها استفهام إنكار: هل يفعل هذه الأمور أحد من الآلهة التي يعبدون من دون الله، فإن قوله:
أإله مع الله [النمل: 60] اسم واحد وقع صفة لإله، ليس هو جملة واحدة كما ظنه طائفة من المفسرين، واعتقدوا أن المعنى: مع الله إله، فإن القوم كانوا يجعلون مع الله آلهة أخرى، وقد ذكر ذلك في السورة بقوله:
آلله خير أما يشركون فلا يفيد استفهامهم عما هم معترفون به، وأيضا فإن جواب المستفهم عنه لا يكون إلا مفردا، لا يكون جملة، فإذا قيل من فعل هذا؟ فإنه يقال: فلان أم فلان لا يذكر جملة، بل لو كان ذلك لم ينتظم الكلام، ولكن المقصود
[ ص: 537 ] أن هذه الآلهة التي تدعونها من دون الله هل هي التي فعلت هذه الأمور أم الله وحده فعلها فإن القوم كانوا مقرين بأن الله وحده هو الفاعل لهذه الأمور، وهذا شأن استفهام الإنكار، فإنه يتضمن نفي المستفهم عنه والإنكار على من أثبته، والقوم كانوا معترفين بذلك، لكن كانوا مع ذلك مشركين به الآلهة التي يعلمون أنها لم تفعل ذلك، فأنكروا عليهم ذلك وزجروا عنه، ومثل هذا في القرآن كثير، ومن عرف هذا عرف
الشرك الذي ذمه الله في كتبه، وأرسل رسله جميعا بالنهي عنه، كما قال تعالى:
واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون [الزخرف 45] وقال تعالى:
ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت [النحل: 36]
والعبادة تتضمن كمال المحبة وكمال الخضوع قال تعالى:
ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله [البقرة: 165].
فهذه السورة يعني الفاتحة، التي قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها أعظم سورة في القرآن، وأنه لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها، وقد ذكر فيها جماع الكتب الإلهية بقوله:
إياك نعبد وإياك نستعين ومما يشبهها قوله:
عليه توكلت وإليه أنيب [ ص: 538 ] وقوله:
فاعبده وتوكل عليه [هود: 123] وقوله:
عليه توكلت وإليه متاب [الرعد: 30] وهذان هما نوعا الدعاء كما تقدم، وهما جميعا مختصان بالله حقان له لا يصلحان لغيره، بل دعاء غيره بأحد بالنوعين شرك كما قال تعالى:
وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا [الجن: 18-20] وقال تعالى:
فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين [الشعراء: 213] وقال تعالى:
قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم [الفرقان: 77] وقال:
وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب [هود: 101]
فغير الله لا يجوز أن يكون مستعانا به متوكلا عليه؛ لأنه لا يستقل بفعل شيء أصلا، فليس من الأسباب ما هو مستقل بوجود المسبب، لكن له شريك فيه، وما ثم علة تامة إلا مشيئة الله، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وكذلك لا يجوز أن يكون غيره معبودا مقصودا لذاته أصلا، فإن ذلك لا يصلح له، ولهذا كان الشرك غالبا على بني آدم، كما قال تعالى:
وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون [يوسف: 106] فيكون أحدهم عبدا لغير الله متألها له مما يحبه ويجله ويكرمه ويخافه ويرجوه، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:
nindex.php?page=hadith&LINKID=680638 " تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس عبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن [ ص: 539 ] منع سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش " وهذا باب واسع ليس هذا موضع بسطه.