وأيضا فنحن لم نشهد محدثا تاما مطلقا؛ إذ
لا محدث تام على الحقيقة إلا الله سبحانه، فظنوا من ظن من
المعتزلة أنه إنما يعرف أن المحدث لا يفتقر إلى محدث إلا بالقياس على إحداث الآدميين غلط، وذلك أن حكم الأصل أضعف من حكم الفرع، فإن الإنسان وإن زعموا أنه يحدث تصرفاته فلا ريب أنه يفتقر فيما يبنيه وينسجه إلى آلة خارجة عن قدرته، فليس هو نظير حكم الفرع، بل يستعمل قياس الأولى ليعلم أن حكم الفرع أقوى وأحق.
وكذلك قول القائل: " إن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح" قضية كلية مضمونها أن جميع الممكنات
[ ص: 577 ] وهي التي لا تستحق بنفسها الوجود ولا يمتنع عليها العدم فلا تكون موجودة إلا بمرجح. لكن العلم بها ليس بأسبق ولا بأظهر من العلم بأفرادها، فإن الإنسان متى تصور أن الشيء الفلاني لا يستحق الوجود في نفسه ولا يمتنع عدمه علم أن ذلك الشيء الفلاني لا يوجد بنفسه، بل نفس تصور الممكن يوجب هذا العلم، فإنه إذا قيل: الشيء يجوز وجوده ولا يكون وجوده بنفسه أو لا يجب وجوده بنفسه: كان نفس هذا التصور يقتضي أن وجوده من غيره. والشأن إنما هو في تعيين الأمور التي هي ممكنة، وهذا قد يعلم بالحدوث المشهود أو المستدل عليه، فتكون طريقتهم تابعة لطريقة الأولين. وأما علم ذلك بغير هذه الطريق ففيها من الخفاء والنزاع ما ليس هذا موضعه.
[ ص: 578 ] ولهذا كثر في هؤلاء من يجحد الصانع مع إقراره بوجود واجب، ثم مع ذلك فأولئك إنما يستفيدون بطريقهم العلم بالقدر المشترك بينه وبين سائر المحدثين، إذ القضية الكلية لا تدل إلا على القدر المشترك، فيكونون قد علموا من إحداثه ما علموه من إحداث سائر الحيوانات حتى البعوضة، ومعلوم أن هذا علم قليل نزر بما يستحقه الرب، ولم يعلموا من إحداث ربهم إلا ما أشركوا به فيه جميع الحيوانات، فيكونون أبعد عن معرفة الله تعالى من المشركين الذين قال الله فيهم:
وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون [يوسف: 106].
ونحن نعلم أن المحدث تعظم قدرته وفعله بالأمر المحدث، كما يعلم أن باني الدار وناسج الثوب العظيم أعظم من باني الدار الصغيرة وناسج الثوب الصغير، لكن القضية الكلية التي ذكروها تفيد أنه أعظم من سائر المحدثين.
بقدر عظمة العالم على جميع مصنوعات أولئك، وهذا بعض ما يستحقه الرب من التعظيم وعدم المماثلة؛ لكن نفس الإحداث أيضا فيه من التفاوت أعظم من هذا التفاوت، فما أحدثه الرب وإن كان أعظم فنفس إحداثه أيضا وهو ليس من
[ ص: 579 ] جنس إحداث المخلوقين، وما ذكروه من القياس لا يفيد هذا إلا بدليل آخر، إذ القضية الكلية لا تدل إلا على القدر المشترك، ثم قياسهم يدل على ذات ما موصوفة بهذا الإحداث.