ففي الجملة ليس في هذا القياس علم بخصوص الربوبية، ولهذا كان ما ورد به القرآن من كونه رب العالمين وخالق كل شيء ونحو ذلك له من الربوبية على هذا ما لم يتسع هذا الموضع لذكره؛ إذ غيره ليس ربا مطلقا ولا خالقا أيضا؛ فكان ما أثبته له من فعل العالم أثبته على الوجه المختص به، لم يثبته باسم لا يفيد إلا القدر المشترك كما فعله هؤلاء الذين قاسوا إحداثه على إحداثهم، وأما الآخرون فإنما يستفيدون الإقرار بوجود واجب الوجود بقدر مشترك بينه وبين سائر الموجودات؛ فكان معلوم هؤلاء أبعد عن معرفة الله وما يخصه من معلوم أولئك، إذ كونه محدثا فيها تعرض لربوبيته وفعله، وإن كانوا قد أشركوا بينه وبين الحيوانات.
وأما هؤلاء فإنهم أشركوا بينه وبين سائر الموجودات بإثبات وجوده، ثم تمييزه بكون وجوده واجبا كتمييز أولئك بأنه محدث العالم،
[ ص: 580 ] ولا ريب أن تمييز هؤلاء أجود، فإن
كونه محدث العالم مستلزم غناه ووجوده بنفسه، وأما العلم بمجرد كونه موجودا بنفسه فلا يفيد العلم بأنه صانع العالم ولا بأنه رب السماوات والأرض، ولا يفيد أيضا العلم بمغايرته لشيء من الموجودات التي لم يعلم حدوثها، إذ كون وجوده واجبا لا ينفي بنفسه أن تكون بعض الذوات ليست محدثة، ثم إذا قرروا أن الأجسام كلها ممكنة أو أن السماوات والأرض كلها ممكنة وواجب الوجود غيرها، أو قرروا أن واجب الوجود لا يكون اثنين لم يستفيدوا بذلك إلا مجرد أن الوجود المشترك بينه وبين غيره وجد بنفسه، ولم يحتج إلى فاعل، فيكونون قد مثلوه بسائر الموجودات، ولكن فرقوا بينه وبينها بالغنى عن الغير فقط، وهذا الوصف قد يزعمون أنه عدمي، وقد يزعمون أنه إضافي، وعلى هذين التقديرين فلا يكونون أثبتوا لرب العالمين إلا ما أثبتوه لسائر الموجودات، وهذا يجمع كل شرك في العالمين، وإن زعموا أنه ثبوتي نقضوا ما أثبتوه لوحدة واجب الوجود
[ ص: 581 ] بحيث أثبتوا لواجب الوجود أمرين ثبوتيين. وهذا باب واسع يطول الكلام فيه.
فظهر أن أقيستهم قد يستغنى عنها: كما قد يتفطن بها بعض الناس لما كان ذاهلا عنه، لكن مع إمكان أن يتفطن بدونها، ومع ذلك فلا تفيد المعرفة الضرورية التي تحصل بالفطرة أو بالآيات أو بقياس الأولى فضلا عن أن تفيد المعرفة التي تحصل بعد ذلك بالشرعة، لكن تفيد نوعا من المعرفة القاصرة وتبطل ما يقابل ذلك من النكرة والجهل والكفر، فتثبت شيئا من الإقرار بالصانع، وتمنع شيئا من الإنكار له، وأما أن ما تفيده الآيات المشهودة والمسموعة وما في ضمن ذلك من الأمثال المضروبة التي مبناها على الأولوية فلا.