واعلم أن المتكلمين يحكون هذا القول عمن يذكرونه من أهل الحديث وأهل الكلام، لكن يزعمون أن الأكثرين على
[ ص: 591 ] قولهم بأن الإقرار بالصانع نظري، ونقلهم ذلك بحسب ما يحكونه، كما نقل هذا
الرازي عن أكثر أهل التوحيد إنكار أن يكون الله فوق العرش، ونقل عن أكثر المسلمين إنكار النفس، وأنه لا يعاد إلا البدن؛ بل ذكر من نقل إجماع الصحابة على
[ ص: 592 ] أن الله ينفي جميع الأجسام، ولم يجزم بنفي ذلك، وأمثال هذه النقول التي ينقلونها بحسب ما عندهم.
وأعجب من ذلك أن كثيرا منهم يظن أن هذا مما لا اختلاف فيه، بل القول بأن معرفة الله التي هي الإقرار بالصانع لا تحصل إلا بالنظر أمر متفق عليه بين النظار. فإذا ذكر له أن في ذلك خلافا بين أهل الكلام بعضهم مع بعض تعجب من ذلك، وذلك لأن من سلك طريقة من هذه الطرائق لا يكاد يعرف غيرها، فلهذا
تجد في كتب أهل الكلام مما يدل على غاية الجهل بما قاله الرسول والصحابة والتابعون وأئمة الإسلام مما يوجب أن يقال: كأن هؤلاء نشأوا في غير ديار الإسلام، ولا ريب أنهم نشأوا بين من لم يعرف العلوم الإسلامية حتى صار المعروف عندهم منكرا والمنكر معروفا، ولبستهم فتن ربي فيها الصغير، وهرم فيها الكبير، وبدلت السنة بالبدعة والحق بالباطل.
ولهذا أنا أنقل من مقالات كبارهم حكاية الخلاف في ذلك، ليستأنس بذلك من يعتمد على نقلهم، وإن كان في ذلك النقل من
[ ص: 593 ] التحريف ما فيه، كما ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=11812الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني في بيان ما يدرك عقلا وما لا يدرك عقلا. قال: قال أهل الحق: العلم والعقل واحد واختلاف الناس في العقول لكثرة العلوم وقلتها. إذا كمل عقل الإنسان وسلم من الآفة أمكنه الاستدلال بما وجد من الأفعال على حدوث العالم، إذ في مجرد العقول أدلة عليه وعلى افتقاره إلى محدث أحدثه، وفيها أدلة على قدم محدثه، وأوصافه التي تدل عليها أفعاله. وما يجوز منه
[ ص: 594 ] ويستحيل عليه. ونفي ما يدل على حدوثه عنه. وجواز وصفه بالقدرة عليه، وغير ذلك من المسائل التي لا تتعلق بحقيقة يسوغ الرد فيه، فإن لصانع العالم أن يبعث الرسل ويأمر الخلق بالشرائع تعبدا، وله أن لا يبعثهم ولا يكلفهم استغناء. وليس في العقول بمجردها أدلة على تغيير الشرائع وإيجاد العبادات وكيفية العقود. قال: وعلى ذلك أهل القبلة إلا في قولهم إن له سبحانه أن لا يبعث الرسل، فإنه تحيله القدرية أو بعضهم على تفصيل له رمزنا إليه كما تقدم.
قال: فزعمت طائفة من مقلدي أصحاب الحديث، وفرقة من نظارهم، وجماعة من
المعتزلة: أن المعرفة بالمحدث وحاجته إلى المحدث من طريق الضرورة وورود الرسول بإيجاب الإقرار وبيان الشرائع. وقال جمهور أهل الحق: إن المعرفة من طريق الدلالة. قالوا: وفي العقل دليل على أنه لا يجب على العاقل الاستدلال عليه، ولا يجب شكر الخالق قبل
[ ص: 595 ] الشرع، ولا يجب ترك الظلم من جهة الصانع على معنى أنه يستحق منه العقوبة أو اللوم، قال:
وزعمت القدرية أن الاستدلال على حدوث العالم وقدم صانعه وأوصافه والشكر لهم بعد معرفته وترك الظلم من جهته واجب عليه بمجرد عقله. ووردت الرسل بتأكيد ما فيه؛ أي ما في عقله إيجابه. وربما يكون ورود الشرع لطفا لبعضهم لكون الإيمان عنده. ا هـ. وذكر تمام كلامه.