[ ص: 619 ] الوجه السادس والثلاثون: أن العلوم الكلية والعقلية لبني آدم جميعها من هذا الباب، فإن الإنسان يشهد بحسه الباطن والظاهر أمورا معينة جزئية على صفات ثم يعقل بما يجعله الله في عقله من العبرة والقياس أن الأعيان التي لم يشهدها هي
[ ص: 620 ] كالأعيان المشهودة في تلك الصفات. وعلم عقله بالتماثل والاختلاف كإحساسه بالأعيان، فقد يكون علما قطعيا، وقد يكون ظنا غالبا، وقد يكون صوابا، وقد يكون خطأ، وكل من الحس والعقل يعرض له الغلط لأسباب، والناس متنازعون: أي الإدراكين أكمل: إدراك الحس أو العقل؟ وأيهما الذي يرجح
[ ص: 621 ] على الآخر؟ وبكل حال فلا يقوم بنفسه قضية كلية عقلية ضرورية أو غير ضرورية إلا بتوسط قياس واعتبار؛ حتى مثل علمه بأن الواحد نصف الاثنين، وأن الجسم لا يكون في مكانين، وأن الضدين لا يجتمعان: هو في ذلك كله قد أدرك بحسه ذلك في بعض الأجسام والأجساد والألوان المتضادة، وعقل أن ما لم يحسه مثل ما أحسه في ذلك، وأن الحكم لا يفترق واحد وواحد وجسم وجسم ولون ولون وضد وضد: يحكم بذلك حكما عاما كليا.
وإذا كان كذلك لم يكن له حجة عقلية في العلم الإلهي أصلا إلا ولا بد فيها من قضية كلية، والقضية الكلية لا بد فيها من
قياس الغائب على الشاهد، فإن كان هذا باطلا بطل جميع كلامهم بالأدلة العقلية في العلم الإلهي، وحينئذ فيبطل ما ذكروه في نفس الجسم وغيره، فلا يكون لهم جواب عما احتج به المنازع، وإن لم يكن باطلا لم يكن له إبطال هذه الحجة بما ذكره من أن مضمونها قياس الغائب على الشاهد. فحاصله أنه إن
[ ص: 622 ] كان ما يسلكونه من الطرق الكلامية العقلية في الإلهيات طرقا صحيحة فهذه الطريق منها فتكون حجة عليهم. وإن لم تكن صحيحة لم تكن حجة لهم، كما لا تكون عليهم، فلا يكون كلامهم حقا دون كلام خصومهم، ولا يكون ما دفع به الضرورة التي ذكرها منازعوهم حقا.