ولما تكلم بنفي الجسم
أبو الهذيل إمام
المعتزلة وأتباعه وتكلم بإثباته
هشام بن الحكم وأشياعه قال هؤلاء: " الجسم هو الموجود وهو القائم بنفسه، ولا يعني بالجسم إلا القائم بنفسه، ولا يعقل قائم بنفسه إلا الجسم، وقالوا دعوى
[ ص: 626 ] وجود قائم بنفسه ليس بجسم كدعوى قائم بنفسه لا تقوم به صفة.
فإن المعتزلة يقولون: إن الباري تعالى قائم بنفسه، وأنه يمتنع أن يكون محلا للصفات والحوادث. قالوا: وهذان مثل دعوى قائم بنفسه لا يباين غيره ولا يتميز عنه. قالوا: وإثبات موجود قائم بنفسه ليس هو جسما ولا يقوم به صفة مثل إثبات قائم بنفسه ليس حيا ولا ميتا ولا عالما ولا جاهلا ولا قادرا ولا عاجزا، كما يقوله من يقوله من الملاحدة
والفلاسفة. وهذا كله جحد لما يعلم بضرورة العقل ومخالفة للبديهة والحس.
وما زال الأئمة يصفون الجهمية بأنها مخالفة للعقول، وأن العقل يعلم أنهم يصفون العدم لا الوجود، ولهذا عندهم نفاة التجسيم من المجسمة لموافقتهم لهم في أصل الإثبات، وإن خالفوهم في بعض التفاصيل.
وإذا كان كذلك فهذا الذي جعله مستندا للداعين من الأولين والآخرين أنه هو الرجوع إلى القياس العقلي، وهو
[ ص: 627 ] قياس ما غاب عنهم من الموجود على ما شاهدوه لا ينافي ما ذكروه من أن ذلك يقتضي علمهم الضروري بأن
الذي يدعى ويسأل هو في جهة فوق، لأن العلوم الضرورية الكلية لا بد فيها من قياس كما تقدم، وهم كما قد يقولون: يعلم بالضرورة أن الله فوق، ويقولون أيضا: يعلم بالضرورة أن ما لا يكون داخل العالم ولا خارجه فإنه معدوم، ويقول من يفهم معنى الجسم على اصطلاح المتكلمين: يعلم بالضرورة أنه لا يكون موجود قائم بنفسه إلا ما سميتموه الجسم. ويقولون: كل من رجع إلى فطرته، وفهم معنى ذلك، ولم يصده عن موجب الفطرة ظن التقليد أو أقيسة فاسدة وهوى من تعصب للمذهب المألوف، فإنه يعلم ذلك، ويثبتون ذلك أيضا بالمقاييس العقلية التي هي أقوى من مقاييس النفاة.
وإذا كان كذلك فنفي التجسيم لا يمكن أن يكون بنص ولا إجماع، بل ولا بأثر عن أحد من سلف الأمة وأئمتها وليس مع نفاته إلا مجرد ما يذكرونه من الأقيسة العقلية، فإذا كان رفع الأيدي إلى السماء في الدعاء مستلزما لاعتقاد الدعاة التجسيم، وهم يثبتون ذلك بالأقيسة العقلية أيضا، كان جانبهم أرجح لو لم يجيبوا عن حجج النفاة. فكيف إذا أجابوا عنها، وإذا بينوا أن نقيض قولهم مستلزم للتعطيل: لتعطيل وجود الباري ذاته وصفاته وتعطيل معرفته وعبادته ودعائه .