قلت: وهذه الحجة التي ذكرها عن
ابن الهيصم من بعض الوجوه، والكلام على هذا من وجوه:
أحدها: أن هذا الذي ذكره من الجواب تقرير لحجة المنازع وتوكيد لها ليس بجواب عنها، ومثل هذا يفعله هذا وأمثاله في مواضع، قال تعالى:
أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين [الزخرف: 18]، قالوا: هي المرأة لا تتكلم بحجة لها إلا كانت عليها، وهؤلاء فيهم التخنث بمشابهتهم
[ ص: 7 ] المشركين الذين قال الله:
إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا [النساء: 117] ما شابهوا به النساء، وكذلك: أن
حجة المنازع مبنية على مقدمات:
إحداهن: أن الله مباين للعالم.
والثانية: أن المباينة ليست إلا بالحقيقة أو الزمان أو المكان.
والثالثة: أن مباينته للعالم أعظم من أن يكون بمجرد الحقيقة أو الزمان.
وإذا ثبتت هذه المقدمات لزم أن يكون مباينا له بالمكان، ويظهر ذلك بنظم ذلك في قياسين:
أحدهما: أن يقال: الباري مباين للعالم، وكل مباين لغيره فلا بد وأن يكون مباينا بالحقيقة أو الزمان أو المكان، فينتج أن الباري سبحانه لا بد أن يكون مباينا للعالم بالحقيقة أو الزمان أو المكان، ثم يقال: ومباينته للعالم ليست بمجرد الحقيقة والزمان، وكل مباينة ليست بمجرد الحقيقة والزمان فلا [بد] أن تكون بالمكان فينتج أنه لا [بد] من المباينة بالمكان.
[ ص: 8 ] إذا تبين نظم الدليل، فقولهم: الباري مباين للعالم لا منازعة فيه، وقد ذكروا أن ذلك معلوم بالضرورة في كل موجودين قائمين بأنفسهما ولم ينازعهم في ذلك.
وقولهم: كل مباين لغيره فلابد وأن تكون مباينته بأحد الوجوه الثلاثة، قد ذكروا أن ذلك معلوم بالضرورة. قالوا: ويعلم بالضرورة أن التباين بين الشيئين لا يخلو عن أحد الوجوه الثلاثة: التباين بالحقيقة، أو بالزمان، أو بالمكان، وقد سلم لهم ذلك ولم ينازعهم فيه، فأثبتوا بذلك أن الباري لا بد أن يكون مباينا للعالم بالحقيقة، أو الزمان، أو المكان.
وأما القياس الثاني: قولهم: مباينته ليست بمجرد الحقيقة والزمان، وأثبتوا ذلك بأن قالوا: المباينة بالحقيقة وبالزمان تكون بين الحال والمحل، وبين الحالين في المحل، مع أنا نعلم بالضرورة أن بين الباري وبين العالم من التباين ما ليس بين المحل والحال فيه، وبين الحالين في المحل، والمحل هو الجوهر، والحال فيه هو العرض. وإذا كان التباين الذي بينه وبين العالم زائدا على تباين هذين، وهذان متباينان بالحقيقة
[ ص: 9 ] وبالزمان لم يكن التباين بينه وبين العالم بمجرد الحقيقة والزمان؛ فإنه إذا كانت مباينته للعالم أعظم من مباينة المباين لغيره بالحقيقة والزمان لم تكن من جنسها، وهذا بين؛ فإنه إذا كانت حقيقته المباينة بمجرد الحقيقة والزمان لم يمتنع أن يكون أحدهما حالا في الآخر، أو يكونا جميعا حالين في محل واحد، وهذا قد تقوله
الحلولية من
الجهمية، فإن القائل إذا قال: الباري مباين للعالم وهو مع هذا حال فيه أو محل له، ومباينته له بأنه قبله وبأن حقيقته تخالف حقيقته، كما يباين الجوهر العرض، والعرض الجوهر ولم تكن المباينة بالحقيقة والزمان مانعة من هذه المحايثة، فإذا كانت المحايثة منتفية لم يكن بد
[ ص: 10 ] من إثبات مباينة تنفي هذه المحايثة، والمباينة بالحقيقة والزمان لا تنفي المحايثة. ولهذا لما زعم الجهمية أنه ليس مباينا بالمكان اضطربوا بعد ذلك، فقال جمهور علمائهم: لا هو محايث للعالم، ولا هو خارج عنه.
[ ص: 11 ] وقال كثير من عامتهم وعبادهم وعلمائهم: بل هو محايث؛ فإنه إذا ارتفعت المباينة بالمكان لم تبق إلا المحايثة، ولا ريب أن قول هؤلاء أقرب إلى المعقول؛ لكنه أقرب إلى العقل ابتداء حيث جعلوه موجودا محايثا للعالم؛ لكنه أعظم تناقضا وجهلا من وجه آخر؛ فإن ما نفوا أن يكون على العرش هو أعظم نفيا لكونه محايثا للعالم؛ ولأن في كونه في نفس المخلوقات من الكفر والضلال ما فيه شناعة تزيد على النفي المطلق الذي لا يفهم بحال وأيضا فالأدلة الدالة على أنه فوق العالم، وأنه مباين للعالم تمنع المحايثة أيضا.