الوجه الثالث والعشرون:
قوله: «فيثبت أنه لا بد لهم من الاعتراف، بأن خصوصية ذاته، التي بها امتازت عن سائر الذوات، مما لا يصل الوهم والخيال إلى كنهها، وذلك [ ص: 304 ] اعتراف بثبوت أمر على خلاف ما يحكم به الوهم، ويقضي به الخيال».
يقال: لا يخلو إما أن تكون ناقلا عنهم ما تقوله؟ أو ملزما لهم أن يقولوا ما لم يقولوه؟ فإن كنت ناقلا عنهم لم يحسن قولك: أنه لا بد لهم من الاعتراف بذلك; فإن هذه إقامة للحجة بأن عليهم الاعتراف; لا نقل عنهم للاعتراف، مع أن القوم في نفي هذه الآفات والنقائص، ونفي التمثيل والتشبيه، من أعظم الأمة قولا بذلك -كما دل عليه الكتاب والسنة، والحجج العقلية- لا يحتجون في نفي التمثيل بهذه الحجة الفاسدة التي لا تدل على نفي التمثيل مطلقا، وإنما تدل -إذا كملت- على تنزهه، عن بعض الآفات والنقائص، المستلزمة عدمه أو لجواز عدمه. فلا نقلت عنهم ما يقولونه من التنزيه. ولا احتججت على التنزيه، بحجة موجبة مطلقا; بل ولا تدل بنفسها على شيء منه. وإن كنت ملزما لهم بمقتضى هذه الحجة، فالإلزام إنما يكون لمن لا يقر بمضمون الحجة، والقوم من أعظم الناس قولا بموجب هذه الحجة، ووجوب تنزيه الله سبحانه وتقديسه عن هذه الأمور وغيرها، كما علم ذلك بالشرع والعقل. ومعلوم أن المطلوب إذا كان اعتراف المنازع به من أظهر الأمور، كان إثبات اعترافه
[ ص: 305 ] بإثبات وجوب اعترافه به، وإثبات الوجوب بمثل هذه الحجة فيه ما فيه، مع أن نفي دخول اعتراف الناس لا يقتضي وجوب اعترافهم، لكونهم قد ينازعون في ثبوت الوجوب.