وقد
بينا قبل أن الله لا يجوز أن يجعل هو وغيره سواء، لا في قياس تمثيل ولا في قياس شمول؛ بل إنما يستعمل في جانبه قياس الأولى والأحرى، فما كان من باب المدح والثناء في المخلوق فهو أحق به، وما كان من باب العيب والنقص الذي يتنزه عنه المخلوق، فالخالق أحق بتنزيهه عنه، وهذا القياس مضمونه أنهم وصفوا الله بامتناع الفعل منه، وعجزه عنه إذا لم يكن متولدا عنه، كما يمتنع في غيره من المتولد الموجب بذاته أن يكون محدثا أو معيدا لما صدر عنه، فقاسوه سبحانه وتعالى بالعاجز المضطر الذي يمتنع عليه الفعل والإحداث، وهو ضرب
[ ص: 231 ] مثل له فيما هو نقص في المخلوق، فأوجبوا هذا النقص للخالق بالقياس عليه، والكلام على ذلك من وجوه:
أحدها: أن يقال كونه يفعل بعد أن لم يفعل: إما أن يكونوا علموا ذلك لعلمهم بخصوص ذات الله وامتناع ذلك عليه، كما يمتنع عليه العدم المنافي لوجوبه، أو علموه لقياس شمولي متضمن لقضية كلية، أو لقياس تمثيل.
فإن ادعوا الأول لم يصح لثلاثة أوجه:
أحدها: أنهم يقرون أنهم لم يعلموا خصوص ذات الرب.
والثاني: أن يقال: فما تلك الخاصية التي يمتنع حدوث الفعل منها، ويكون إحداثها للأمر ممتنعا؟ ولا سبيل لهم إلى معرفة ذلك ولا ذكره.
الثالث: أن معرفة عين الشيء إنما تكون بالحواس الباطنة أو الظاهرة، وذلك يوجب أن تكون معرفة الله بديهية أو حسية، وهم لا يقولون بذلك، ومن يقر بذلك يعلم أن الأمر بخلاف ما قالوه، فإن ادعوا ذلك عن قياس شمولي أو تمثيل -وهو طريقهم- فيقال: لا يصح دخوله هو وغيره تحت حكم كلي في هذا الباب، فإنه ليس في الكائنات شيء واحد، هو علة تامة لفعل؛ بل لا يصدر شيء إلا عن اثنين فصاعدا، وإذا لم يكن في الموجودات علة تامة، ولم يكن غيره مؤثرا تاما لم يمكن أن
[ ص: 232 ] يقال: المؤثر التام يجب أن يقارنه الأثر، أو يمتنع تخلف الأثر عنه؛ إذ ليس في الكائنات ما هو وحده مؤثر تام البتة، وهذا مشهود محسوس في جميع المؤثرات، سواء كان بالإرادة والاختيار كالحيوانات أو كان بالطبع كالجامدات، فليس فيها ما يكون وحده مؤثرا؛ بل النار ونحوها لا تحرق إلا مع سبب آخر وهو المحل القابل للإحراق، والإنسان لا يفعل بإرادته وقدرته إلا بأسباب خارجة عن قدرته، وأيضا فذلك الغير -الذي يدخل تحت القضية الكلية- إما أن يكون حيا له مشيئة، أو يكون غير حي ليس له إلا الطبع، وعلى التقديرين: فهذه الأمور تصدر عنها الأفعال بعد أن لم تكن صادرة كما هو مشهود في جميع الفاعلين؛ لكن المنازع يقول: "إنها لا تحدث فعلا حتى يتغير، والتغير على الرب محال".
يقال له: هذا إنما يصلح أن يقال: لو كان غيرك هو المحتج بالقياس على هذه الأمور فتفرق أنت.
والمقصود هنا: أنك أنت، لا يمكنك أن تذكر قضية كلية تعم شيئين فصاعدا على امتناع صدور الفعل عن الذات بعد أن
[ ص: 233 ] لم يكن صادرا عنها، وإن لم يكن / لك على ذلك قياس شمول، فقياس التمثيل أبعد وأبعد.
فتبين أن حكمه بأن واجب الوجود لا يحدث شيئا، قول بلا علم أصلا؛ لا هو معلوم بنفسه ولا بحجة، ومنشأ ضلالة هؤلاء
المشركين الصابئين والمجوس المشركين وغيرهم من أصناف المشركين هو القياس الفاسد الذي مضمونه التسوية بين الله وبين غيره، وأن يجعل غير الله له عدلا وندا ومثلا وكفوا؛ فتارة يعدلونه بما وجوده مما له فعل بمشيئته فيه، وتارة يعدلونه بما وجوده مما له فعل بقوة فيه بلا حياة، وهؤلاء من أجدر الناس أن يقولوا:
تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين [الشعراء: 97، 98].
[ ص: 234 ] ولهذا كان من أصول أهل السنة أنه لا خالق إلا الله ولا فاعل مستقل بالفعل ولا مؤثر تاما غيره، وذلك أن كل ما يقدر غيره مما له فعل وتأثير ففعله موقوف على شروط من غيره يكون شريكا وممنوع بمعارضات من غيره، وله كفو يفعل كفعله، وله شريك وله ند وله كفو.
ولهذا
بين سبحانه وتعالى اختصاصه بعدم الشريك والمعاون، وعدم الند المعارض، وعدم الكفو المماثل، كما في قوله تعالى:
ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده [فاطر: 2] فأخبر أنه لا مانع ولا معارض لما يفتحه من رحمته، وأخبر أن ما يمسكه فلا يرسله، ولا يعطيه أحد غيره، وهذا كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الصلاة في رفعه من الركوع وبعد السلام:
nindex.php?page=hadith&LINKID=650799 "اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد"، وليس في الوجود من يعطي شيئا إلا وله مانع غيره، ولا يمنع شيئا إلا وله معط غيره
[ ص: 235 ] [فهو] في إعطائه غير مستقل؛ بل لابد له من شريك ومعاون، وهذا [لأنه] ليس في المخلوقات ما هو مؤثر تام، فلا شيء يؤثر وحده، ولا شيء إذا أثر يكون الأثر واجبا معه مطلقا؛ بل قد يكون له من المعارضات ما يمنع أثره.
ومن أظهر ما يسمى مؤثرا الشمس في الإشراق والتسخين، وهي لا تشرق إلا مع شيء آخر يقابلها، يتعلق شعاعها عليه، فيكون الضوء والشعاع حادثا بسببين: بسببها، وبسبب الجسم المقابل لها، الذي يحل به الشعاع، ثم إن موانع الضوء والشعاع من السحاب وغيره موجودة مشهودة، وكذلك تسخينها مشروط بالمحل الذي تقوم به السخونة، وموانع السخونة موجودة مشهودة، ومع كون فعلها موقوفا على شريك لها، ولها مانع يمنعها؛ بل أسباب غيرها؛ فإن السخونة عن الشعاع فإنها تكون عن النار، وتكون عن الحركة، وكذلك الإشراق يكون عن النار، والقول في تسخين النار وإشراقها، وتسخين الحركة كذلك فإنه لابد من سبب آخر كالجسم الحامل للسخونة، وثم موانع تمنع وجود السخونة فلا تكون بالأسباب المخلوقة من رحمة، فله ممسك أيضا من الأسباب المخلوقة، وما يكون بها من
[ ص: 236 ] إمساك بغيرها يكون به إرسال ما أمسكه الله.
والله سبحانه هو وحده الذي ما يفتحه للناس من رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده ولهذا قال بعد ذلك:
يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض [فاطر: 3] وقال تعالى:
وجعلوا لله شركاء [الأنعام: 100]، وكذلك قوله:
قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون [الزمر: 38]، وقوله تعالى:
وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله [يونس: 107]. بين سبحانه أنه لا يكون غير الله معارضا ومانعا لما يشاؤه الله من منفعة أو مضرة؛ إذ كل ما يقدر من سبب لنفع أو ضر فله مانع ومعارض، فما من سبب مقتض في الوجود، إلا وله مانع معارض. وما كان كذلك لم يكن علة تامة ولا مؤثرا تاما إلا بمشيئة الله تعالى، فإنه ما [شاء] الله كان، والله تعالى لا معارض لحكمه ولا مانع له، فلا يكشف ما ينزله من الشدة إلا هو، ولا يرد ما ينزله من الرحمة أحد غيره.