قلت والكلام على ما ذكره من وجوه:
أحدها: أن الذي ذكره لا يصلح أن يكون معارضا، وإنما يعارض بمثل ذلك من لا يعلم حقيقة المعارضة، وذلك أن المعارضة نوعان: معارضة في الحكم، ومعارضة في الدليل،
[ ص: 306 ] فالمعارضة في الحكم نفي قول المستدل أو إثبات نقيضه بدليل آخر، والمعارضة في الدليل بيان انتقاضه أو انتقاض مقدمة من مقدماته، ويقال: هذا معارضة في مقدمة الدليل، وما ذكره ليس بمعارضة في الحكم ولا معارضة في الدليل، وذلك أن المعارضة في الحكم المعارض به هو الذي يدل على نقيض قول المستدل أو على مثل قول المعارض، فإنه إذا ثبت قول المعترض نفى قول منازعه الذي يناقضه، ومتى نفى قول المستدل حصل مقصود المعترض، وذلك يستلزم صحة قوله الذي يناقضه،
وهذه الآيات لا ينازع هذا المؤسس وموافقوه أنها لا تنفي أن يكون الله فوق العرش، ولا هي أيضا دالة عندهم على أن الله بذاته في كل مكان حتى يقال يلزم من ذلك نفي كونه فوق العرش، بل المنازع وذووه لا يستريبون أنها لا تدل على شيء من ذلك، ومن ادعى دلالتها على أن الله تعالى بذاته في كل مكان فهو مبطل، سواء قيل إن ظاهرها يقتضي ذلك أو لا يقتضيه، فإن أكثر ما يقال إن ظاهرها يقتضي أنه في كل مكان؛ لكن المؤسس وموافقوه
[ ص: 307 ] لا ينازعون لأولئك في أنها لا تدل على ذلك، ولم يرد بها ذلك، وأنه لا يجوز أن يستدل بها على ذلك، وإذا كانوا متفقين على عدم جواز الاستدلال بها على أن الله في كل مكان وعلى أن ذلك / لم يرد بها ولم تدل عليه، لم تكن منافية ومعارضة لما استدل عليه به المثبتون بتلك الآيات، وإذا لم تكن معارضة لها لم تكن المعارضة بها معارضة صحيحة.
وهذا بين لما يقابله، فإن الاتفاق إذا حصل من الخصمين على أن قوله تعالى:
وهو الله في السماوات وفي الأرض [الأنعام: 3] وعلى أنها لم تدل على أن ذات الله في الأرض، بل معناها أنه إله من في السماء ومن في الأرض ونحو ذلك، كانت الآيات الدالة على أن الله فوق، وأنه فوق العرش؛ لا تعارضها هذه الآيات، فإن كونه فوق العرش لا يعارضه كونه معبودا في السماء والأرض، وكونه مع الخلق بعلمه وقدرته، ونحو ذلك، بل الذين يقولون ليس [هو] فوق العرش يوافقون المثبتة على أن معنى هذه الآيات، فتعين التأويل لهما أو لأحدهما، ويجعل هذا معارضة في الدليل لا في الحكم، أي أن التمسك بالظاهر يقتضي الجمع بين هذا وهذا، وذلك ممتنع؛ فتكون دلالة الإثبات منتقضة، وهذه المعارضة باطلة، فإن الأدلة على أنه مباين للعالم فوق العرش نصوص كثيرة قطعية يعلم بالضرورة
[ ص: 308 ] مضمونها، ويعلم ذلك أيضا بأدلة كثيرة، ويعلم بالسنة المتواترة، ويعلم بإجماع سلف الأمة وأئمتها، ثم إنه موافق للفطرة الضرورية والبراهين العقلية.
وأما ما يظن أنه يدل على أنه في العالم فيقال:
أولا: لا نسلم أن شيئا من الآيات ظاهر[ة] في ذلك، ولو سلم ظهوره فمعه قرائن لفظية تبين المراد به فلا يكون ذلك مرادا ومع القرائن اللفظية لا يبقى ظاهرا في المحايثة، ثم إنه قد ثبت تفسيره باتفاق سلف الأمة بما ينفي المحايثة، ويعلم بالحس والعقل ضرورة ونظرا انتفاء ما يتوهم فيه من المحايثة، ومع ذلك من ظن أنه دال على المحايثة يكون ضالا من جهة نفسه لا من جهة الآيات، ثم يقال: ليس هذا معارضة في الدليل، وإنما تكون المعارضة في الدليل بأن تكون قدحا من آيات تدل على أنه فوق مثل هذه الآيات، ولم يرد بها أنه فوق، فيبقى اللفظ محتملا للتعيين ونقض دلالاته.
وأما ما يدل على نفي الفوقية فهذه معارضة في الحكم حينئذ، فيقال لهم: ليس للمعترض أن يعارضه بظاهر يوافق خصمه على عدم منافاته لمذهبه، وأيضا فإذا قدر تعارضهما في الظاهر كان ذلك محوجا إلى تأويل أحدهما، فلماذا يجب تأويل
[ ص: 309 ] الصنفين جميعا، بل لو قال لهم القائلون إنه بذاته في كل مكان، نحن نقول بنصوص المحايثة، ونتأول نصوص المباينة، لكانوا أقرب إلى اتباع النصوص منهم، [فإ]نه من المعلوم أن صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح الذي يسميه المتأخرون التأويل؛ على خلاف الأصل، وما كان على خلاف الأصل فتكثيره على خلاف الأصل، فيكون مثبتو المحايثة أقل مخالفة للنصوص من نفاة المحايثة والمباينة، ولهذا كان عوامهم وعبادهم إنما يفهمون من قولهم المحايثة استدلالا يهدم الشبهات.