الوجه الخامس: أن هذه الآيات إنما يعارض بها
الجهمية الذين يقولون إنه في كل مكان، كما ذكر ذلك الأئمة، وإن كان كثير من هؤلاء ملبسا -كما لبس هذا المؤسس- لا يقول بموجب هذه الآيات ولا بموجب هذه، وإنما يذكر هذه ليدفع بها في الظاهر دلالة تلك الآيات، وهي عنده لا تدفع دلالتها كما ذكرناه.
وهؤلاء الجهمية إذا قالوا إنه في كل مكان بذاته، فقد لزمهم من المحاذير والمناقضات التي فروا إليها من كونه فوق العرش أكثر مما فروا منه، وإذا كان كذلك لم يكن لهم حجة عقلية يحتجون بها في تأويل تلك الآيات دون هذه، فيكون احتجاجهم بهذه الآيات باطلا كاحتجاج إخوانهم فظهر فساد المعارضة بها من الطائفتين جميعا، وذلك أن المعارض بها إذا قال إنه في كل مكان بحيث يماس الأجسام ويكون محدودا بها [أ]و قال إنه داخل العالم وخارجه وهو جسم محدود، ففي هذه الأقوال من الفساد ما ليس في قول من يقول إنه فوق العرش وهو جسم كما تقدم، وإذا كان كذلك لم يكن -كما تقدم- له القول فيما ادعاه من موجب هذه الآيات لاقتران الدليل العقلي بها دون تلك، بل الأدلة العقلية على موافقة تلك الآيات أدل منها على هذه كما
[ ص: 314 ] تقدم بيانه، وإن قال إنه في كل مكان بلا مماسة، أو أنه داخل العالم وخارجه وليس بجسم أو أنه ذاهب في الجهات إلى غير غاية وليس بجسم ونحو ذلك، فمن المعلوم أن هذا أبعد عن المعقول وأعظم إحالة من كونه فوق العرش وليس بجسم. ومن المعلوم أيضا أن هذه الآيات التي ذكرها لا تدل على ذلك، فحينئذ لا يكون قد قال بموجب هذه الآيات ولا بموجب تلك، بل ترك النصين جميعا مع مخالفته للمعقول، وهذا كله يبين أن هذه الآيات لا تصلح أن يعارض بها أحد ممن يقول إن الله ليس فوق العرش.