وكذلك
العلم بنفي الشركاء عنه علم بوحدانيته التي هي من الكمال ، وكذلك تصور ما يراد فعله مفض إلى وجود الفعل ، وتصور ما يراد تركه مفض إلى الترك الذي هو عدم الشر ، الذي يكمل الموجود بعدمه .
وذلك أن هذا الذي ذكرته في العلم والقول يقوم مثله في الإرادة والعمل ؛ فإن الإرادة متوجهة إلى الوجود بنفسه الذي هو الفعل ، ومتوجهة إلى العدم الذي هو الترك على طريق التبع ، لدفع الفساد عن المقصود الموجود . وإلا فإرادة «لا شيء » لا يستفيد به العبد المريد فائدة ، ولا تحصل له كمالا ولا لذة .
[ ص: 111 ]
ولهذا سألني بعض الأمراء مرة : أيما أفضل : إيصال الحق إلى ربه أو دفع غير ربه عنه ؟ فقلت : أفضله هو المقصود لنفسه بالقصد الأول ، وهذا مقصود لغيره بالقصد الثاني . وكذلك الورع ونفي البدع وكل ما ينفى في الاعتقاد والأقوال أو في الإرادات والأفعال ، إنما يطلب به تحقيق الموجود والمقصود من ذلك ونفي الفساد عنه . ولذلك كان
أهل السنة والورع أصلح اعتقادا وعملا من غيرهم لنفي الفساد ، مع ما يستلزم ترك الباطل من الحق الموجود والمقصود .
وأما الدليل فلا بد في كل دليل عقلي -وهو القياس الشمولي المشتمل على المقدمتين- من إيجاب وعموم ، إما مجموعا في مقدمة وإما مفرقا في المقدمتين ، ولذلك كان لا قياس عن سالبتين ولا جزئيتين . فعلم أنه لا بد في كل دليل من علم وجودي إحاطي ، وإلا فالعلم العدمي لا ينتج وحده ، ولو اجتمع منه مقدمات ، فلا يكون وسيلة إلى مطلوب بحال .
فثبت أن العلم بالسلوب لا يستقل في المسائل والأحكام ، ولا في الوسائل والأدلة ، بل هو مفتقر إلى العلم بالوجود فيهما ، فمن كان الغالب على علمه وكلامه النفي والسلب كان الغالب ما لا يفيد ، لا مقصودا ولا وسيلة ، ومن غلب على كلامه الإثبات والإيجاب كان الغالب عليه هو المفيد مقصودا ووسيلة . وهذا كلام
شريف برهاني ، والذوق يصدقه والوجود يحققه .
[ ص: 112 ]
وهذا الذي قررناه في العلم والقول في الأحكام والأدلة يجيء مثله في القصد والعمل في المقاصد والوسائل ، فمن غلب عليه في ذلك الوجود في المقاصد والأعمال كانت طريقته أنفع ممن غلب عليه العدم فيهما ، فالوجود راجح على العدم في نفسه وفي علمه وذكره وقصده والسعي إليه .
وكذلك أيضا في القدرة والسمع والبصر وسائر الصفات ، لكن لا بد من نفي وعدم يدفع عن الوجود ما يضره ويفسده ، وإلا فسد . فهذا هذا ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
ولهذا إذا ترك المؤمن شيئا من المكروهات فلا بد أن يكون تركه لإرادة أمر موجود ، فيتركه لوجه الله وإرادة ثوابه ، أو للخوف من العقاب الذي يضره . ولهذا اختلف الناس في المطلوب بالنهي : هل هو نفس العدم أو الامتناع الذي هو أمر وجودي ؟ والتحقيق أن كلاهما مطلوب للناهي ، لكن فائدة الوجود وجودية ، وفائدة العدم عدمية .
وقد اتفق الفقهاء على تعليل النفي بالنفي كتعليل الإثبات بالإثبات وتعليل النفي بالإثبات ، فإن الوجود قد يقتضي عدم أشياء . أما تعليل الوجود بالعدم ففيه خلاف ، وأصحابنا جوزوه ، لأن النفي يتضمن الوجود . . . . . . . . وقد يقال : إرادة العدم تقتضي وجودا . . . . . والله أعلم .