وإذا كان في النعمة والكرامة هذان الوجهان فهي في باب الأمر والشرع نعمة يجب الشكر عليها ، وفي باب الحقيقة القدرية لم يكن لهذا الفاجر بها إلا فتنة ومحنة استوجب بمعصية الله فيها العذاب ، وهي في ظاهر الأمر قبل أن تعرف حقيقة الباطن ابتلاء وامتحان ، يمكن أن تكون من أسباب سعادته ، ويمكن أن تكون من أسباب شقاوته .
وظهر بهذا جانب الابتلاء بالمر ، فإن
الله يبتلي بالحلو والمر ، كما قال :
ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون [الأنبياء :35] ، وقال تعالى :
وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون [الأعراف :168] ، فمن ابتلاه الله بالمر بالبأساء والضراء والبأس وقدر عليه رزقه ، فليس ذلك إهانة له ، بل هو ابتلاء ، فإن أطاع الله في ذلك كان سعيدا ، وإن عصاه في ذلك كان شقيا ، كما كان مثل ذلك سببا للسعادة في حق الأنبياء والمؤمنين ، وكان شقاء وسببا للشقاء في حق الكفار والفجار ، قال تعالى :
والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس ، أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون [البقرة :177] .
[ ص: 247 ]
وقال :
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا [البقرة :214] ، وقال تعالى :
وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم [التوبة :101] . وقال تعالى :
ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون [السجدة :21] . وقال تعالى :
ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون [المؤمنون :76] .
وكما أن الحسنات وهي المسار الظاهرة التي يبتلى بها العبد تكون عن طاعات فعلها العبد ، كما قال تعالى :
ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك [النساء :79] . وقال :
أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم [آل عمران :165] ، وقال :
وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير [الشورى :30] ، وقال :
فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا [النساء :62] ، وقال :
وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور [الشورى :48] .
ثم تلك المسار التي هي ثواب طاعته إذا عصى الله فيها كانت سببا لعذابه ، فالمكاره التي هي عقوبة معصيته إذا أطاع الله فيها كانت سببا لسعادته .
[ ص: 248 ]
فتدبر هذا لتعلم أن الأعمال بخواتيمها ، وأن ما ظاهره نعمة وهو لذة عاجلة قد يكون سببا للعذاب ، وما ظاهره عذاب وهو ألم عاجل قد يكون سببا للنعيم ، وما هو طاعة فيما يرى الناس قد يكون سببا لهلاك العبد برجوعه عن الطاعة إذا ابتلي في ثمرة الطاعة ، وما هو معصية فيما يرى الناس قد يكون سببا لسعادته بتوبة العبد منه وتصبره على المصيبة التي هي عقوبة ذلك الذنب .
فالأمر والنهي يتعلق بالشيء الحاصل ، فيؤمر العبد بالطاعة مطلقا ، وينهى عن المعصية مطلقا ، ويؤمر بالشكر على كل ما يتنعم به . وأما القضاء والقدر -وهو علم الله وكتابه وما طابق ذلك من مشيئته وخلقه- فهو باعتبار الحقيقة الآجلة ، فالأعمال بخواتيمها . والمنعم عليهم في الحقيقة هم الذين يموتون على الإيمان .