ومعلوم أنه
إذا اعتقد المرء أن طاعة الله ورسوله فيما أمر به قد لا تكون مصلحة له ولا منفعة ، ولا فيها نعيم ولذة ولا راحة ، بل تكون مفسدة له ومضرة عليه ، ليس فيها إلا ألمه وعذابه كان هذا من أعظم الصوارف له عن فعل ما أمر الله به ورسوله . ثم إن كان ضعيف الإيمان بالوعد والوعيد ترك الدين كله ، وإن كان مؤمنا بالوعيد صارت دواعيه مترددة بين هذا العذاب وذلك العذاب ، وإن كان مؤمنا بوعد الآخرة فقط لم يرج أن يكون له في الدنيا مصلحة ومنفعة ، بل لا تكون المصلحة والمنفعة في الدنيا إلا لمن كفر وفسق وعصى .
وهذا أيضا وإن كان هو غاية حال هؤلاء فهو مما يصرف النفوس عن طاعة الله ورسوله ، ويبقى العبد المؤمن متردد الدواعي بين هذا وهذا ، وهو لا يخلو من أمرين :
[ ص: 257 ]
إما أن يرجح جانب الطاعة التي يستشعر أنه ليس فيها طول عمره له مصلحة ولا منفعة ولا لذة ، بل عذاب وألم ومفسدة ومضرة . وهذا لا يكاد يصبر عليه أحد .
وإما أن يرجح جانب المعصية تارة أو تارات أو غالبا ، ثم إن أحسن أحواله مع ذلك أن ينوي التوبة قبيل موته . ولا ريب أنه إن كان ما قاله هؤلاء حقا فصاحب هذه الحال أكيس وأعقل ممن محض طاعة الله طول عمره ، إذ هذا سلم من عذاب ذلك المطيع في الدنيا . ثم إنه بالتوبة أحبط عنه العذاب ، وبدل الله سيئاته بالحسنات ، فصارت جميع سيئاته حسنات . فكان ثوابه في الآخرة قد يكون أعظم من ثواب ذلك المطيع الذي محض الطاعة . ولو كان ثوابه دون ذلك لم يكن التفاضل بينهم إلا كتفاضل أهل الدرجات في الجنة .
وهذا مما يختاره أكثر الناس على مكابدة العذاب والشقاء والبلاء طول العمر ، إذ هو أمر لا يصبر عليه أحد ، فإن مصابرة العذاب ستين أو سبعين سنة بلا مصلحة ولا منفعة ولا لذة أمر ليس هو في جبلة الأحياء ، إذا جوزوا أن لا يكون في شيء من طاعة الله له مصلحة ولا منفعة طول عمره . وهؤلاء يجعلون العباد مع الله بمنزلة الأجراء مع المستأجرين ، كأن الله سبحانه وتعالى استأجرهم طول مقامهم في الدنيا ليعملوا ما لا ينتفعون به ، ولا فيه لربهم منفعة ليعوضهم عن ذلك بعد الموت بأجرتهم ، وفي هذا من التشبيه لله بالعاجز الجاهل السفيه ما يجب تنزيه الله عنه ، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا .