فصل
في توبة قوم يونس
[ ص: 362 ] فصل
في
توبة قوم يونس هل هي مختصة بالقبول دون سائر من يتوب كما تابوا ؟
وفي ذلك للناس قولان :
قال كثير من المفسرين -وربما قيل : قال أكثر المفسرين- : إن الله تاب عليهم بعد معاينة بأسه ، وخصهم بقبول التوبة في هذه الحال دون سائر الأمم ، واستثناهم من الأمم بقوله :
فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين [يونس :98] ، قالوا : وكشف العذاب لا يكون إلا بعد معاينته ، وذكروا قولين : هل رأوا العذاب أو دليل العذاب ؟
قالوا : قال أكثر المفسرين : رأوا نفس العذاب بدليل قوله :
لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا .
وقالت طائفة : رأوا دليل العذاب ؛ لأن التوبة بعد معاينته لا تقبل ، ولا فرق في ذلك بين أمة وأمة ، بل هذا حكم عام .
[ ص: 364 ]
وهذا القول يوافق قول من يقول : ليسوا مخصوصين بقبول التوبة ، بل كل من تاب كما تابوا قبل الله توبته . وهو القول الثاني ، وهو الصواب ؛ لأن الله سبحانه قال :
فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده [غافر :84 - 85] ، فأخبر سبحانه أن هذه سنته ، وسنته سبحانه لن تجد لها تبديلا ولن تجد لها تحويلا ، كما قال :
فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا [فاطر :43] .
وأيضا فإنه قال :
وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار [النساء :18] . وهذا نفي عام ، ولو كان أحد مستثنى من هذا العموم لكانت أمة
محمد أحق بالاستثناء من قوم يونس ، فإنهم أكرم الأمم على الله ، ونبيهم نبي الرحمة ونبي التوبة ، وقد وسع الله لهم في التوبة ما لم يوسعه لبني إسرائيل مع كرامة أولئك على الله . وهاتان الأمتان قد فضلهما الله على العالمين ، فإذا لم يقبل توبة أحدهم إذا حضره الموت فكيف يقبل توبة قوم يونس ؟
وأيضا فإن الله حكيم عدل ، لا يفرق بين المتماثلات ولا يسوي بين المختلفات ، فلا يفرق بين توبة قوم يونس وغيرهم إلا لافتراق العملين ، وإلا فمن تاب مثل ما تابوا فحكمه حكمهم ، وهم إذا تابوا بعد رؤية البأس فهم كغيرهم .
[ ص: 365 ]
وأيضا فقد قال
موسى في دعائه على قوم فرعون :
ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم [يونس :88] قال الله تعالى :
قد أجيبت دعوتكما [يونس :89] . ولم يؤمن فرعون حتى أدركه الغرق فقال :
آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين [يونس :90] ، قال الله تعالى :
آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين [يونس :91] . فدعاء موسى هذا الدعاء دليل على أنه قد علم حينئذ أن التوبة لا تنفع ، ولو جاز أن يخص من هذا أحد جوز
موسى أن تقبل توبة
فرعون حينئذ كما قبلت توبة قوم
يونس ، فعلم أنه كان مستقرا عند موسى أن هذا حكم عام .
وأما ما احتجوا به من أن الله كشف عنهم العذاب لما تابوا فهو حق كما أخبر الله ، وسواء كانوا قد رأوا العذاب أو لم يروه ، فإن العذاب نوعان : عذاب يتيقن معه الموت ، وعذاب لا يتيقن معه الموت ، فهذا الثاني عذاب أيضا ، ومن تاب كشف الله عنه العذاب ، بدليل قوله تعالى :
ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ، ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد [ ص: 366 ] عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين [الأعراف :130 - 136] . وقال تعالى :
وقالوا يا أيه الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون [الزخرف :49 - 50] .
فقد أخبر أنه كشف العذاب عن قوم فرعون .