صفحة جزء
فصل

وأما قول القائل: «من زعم أن القرآن الذي يقرؤه الناس كلام الله فهو حلولي يقول بقول النصارى الذين يقولون بحلول القديم في الحادث»، فهذا يدل على جهله بدين المسلمين ودين النصارى!

* أما المسلمون، فإنهم إذا قالوا كما قال الله تعالى: وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله [التوبة: 6] لم يريدوا بذلك أن الكلام الذي تكلم به الرب وقام بذاته انتقل إلى القراء; فإن الانتقال ممتنع على صفات المخلوقين، فكيف على صفات الخالق؟!

والمسلمون إذا سمعوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وبلغوه عنه، وقالوا: إنه قال: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»، كانوا مبلغين لكلام [ ص: 31 ] النبي صلى الله عليه وسلم بحركاتهم وأصواتهم، لا بصوت النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن ما قام به من كلامه -حروفه ومعانيه- منتقلة عنه ولا حالة فيهم.

فكيف يقال: إن جبريل سمع كلام الله من الله، وبلغه إلى رسوله محمد، فيكون شيء من كلام الله منتقلا عن ذات الله وحالا بجبريل، فضلا عن أن ينتقل إلى البشر ويحل بهم؟!

بل الكلام كلام من قاله مبتدئا، لا كلام من قاله مبلغا مؤديا.

وموسى سمع كلام الله من الله بلا واسطة، وأما المسلمون فإنما سمعوه من المبلغين عنه، لم يسمعوه من الله عز وجل.

والفرق بين السماعين ظاهر، هذا سماع بواسطة وهذا سماع بلا واسطة، كما أن الشمس والقمر والكواكب قد يراها بطريق المباشرة، وقد يراها بواسطة ماء أو مرآة أو جسم صقيل; فهذه رؤية مقيدة بواسطة، لم يباشرها بالرؤية. وكذلك السامع لكلام المتكلم من المبلغ عنه، هو سمع مقيد بواسطة، لم يباشره بالسمع.

وإذا قيل: «رسول الله بلغ عن ربه»، و «حكى عن ربه»، و «حدث عن ربه»، و «روى عن ربه»، كان صحيحا.

وإذا قيل: «هذا حكاية القرآن»، بمعنى أن أحدا يحاكي كلام الله، فيأتي [ ص: 32 ] بمثله، فهذا باطل، قال تعالى: قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا [الإسراء: 88].

ومن قال: «إن المداد الذي في المصاحف، والأصوات المسموعة من القراء، قديمة أزلية»، فهو ضال ضلالا مبينا، مخالف لصريح المعقول والمنقول، ولم يقل هذا أحد من أئمة المسلمين، لا أبو حنيفة، ولا مالك، ولا الشافعي، ولا أحمد، ولا جماهير أصحابهم. كما أن القول بأنه معنى واحد قائم بالذات قول مخالف لصريح المعقول والمنقول، لم يقله أحد من أئمة المسلمين ولا جماهير أصحابهم.

* وأما مذهب النصارى، فإن عندهم أن أقنوم الكلمة هو جوهر قائم بنفسه، يخلق ويرزق، ويغفر ويرحم، وهو الإله المعبود، وهو المتحد بالمسيح.

فالكلمة عندهم ليست مجرد صفة قائمة بالمتكلم، ولا الحلول عندهم حلول صفة الله في غيره، بل نفس المسيح عندهم إله يغفر ويرحم، ويقيم القيامة.

فالحلول الذي تقوله النصارى يشبه قول من يقول في بعض البشر: إنه إله، كما تقوله الغالية في الأئمة والشيوخ. [ ص: 33 ]

فإن كان في المسلمين من يقول: إنه من القرآن، فقد صار إلها، فهذا يقول بقول النصارى. وإن لم يكن في المسلمين من يقول ذلك فهذا كذب على المسلمين.

وهذه نكتة مختصرة; إذ كان جواب هذه الورقة مبسوطا في غير هذا الموضع.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله.

وكان الفراغ على يد العبد الفقير الحقير المقر بالذنب والتقصير راجي عفو ربه السميع البصير محمد بن حمد بن نصر الله، غفر الله له ولوالديه.

التالي السابق


الخدمات العلمية