وآخرون
غلوا في مناقضة أهل البدع والضلال، فأفضى بهم الغلو إلى سوء الحال، فسلبوا المخلوقات ما فيها من القوى والإرادات والطباع، حتى تجهموا فصاروا جبرية من أهل الابتداع.
ودين الله تعالى بين الغالي فيه والجافي عنه.
واعلم أنه ما من عاقل يقول مقالة إلا ولا بد أن تكون مشتملة على شيء
[ ص: 122 ] من الحق، حتى يقبلها قلبه، وتقبل عنه، كما يقبل الدرهم الزائف بما فيه من الفضة، واللبن المشوب بما فيه من المحض، وإلا فلو خلص الباطل وتمحض لما خفي على من له أدنى مسكة من عقل، ومن هنا سميت الأباطيل «شبهات»; لمشابهتها الحق ببعض الصفات.
فالقول الحق أن الله سبحانه خلق الخلق كلهم، أولهم وآخرهم، وعاليهم وسافلهم، وأنه أحاط علما بدقهم وجلهم، وخفيهم وجليهم، وأنهم متساوون في الافتقار إليه، ومتكافئون في الاضطرار إليه، وأن رحمته وقدرته ومشيئته وعلمه محيط بجميعهم، وأن الأسباب بيديه سبحانه وتعالى بمنزلة الآلات والأدوات في أفعال العباد من بعض الوجوه، ولله المثل الأعلى.
فالكاتب والصانع يفعله بقلمه وقدومه وسيفه وسوطه وعصاه، فيقال: كتب بقلمه، وضرب بعصاه، فلا يضاف الفعل إلى الأداة، ولا يجعل وجودها كعدمها، لكن الله سبحانه لو شاء لفعل بلا آلة، لكن في الآلات أنواع من الحكمة، كما أنه لو شاء لابتدع الإنسان العظيم في لمح البصر، وإن كان إنما يخلقه على وجه التدريج.
وعلى هذا السياق جاء القرآن، قال سبحانه:
والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها [النحل: 65]،
وأنزلنا من السماء ماء [المؤمنون: 18]،
[ ص: 123 ] فأنبتنا به حدائق ذات بهجة [النمل: 60]،
حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات [الأعراف: 57]، إلى غير ذلك من الآيات; فبين سبحانه أنه ينزل الماء بالسحاب، وأنه ينبت الأشجار بالماء.
قال
الإمام شمس الدين محمد ابن المحب المقدسي الحنبلي: إلى هنا وجدت بخط شيخ الإسلام
ابن تيمية الحراني رضي الله عنه. ومن خط الإمام شمس الدين محمد ابن المحب المقدسي الحنبلي نقلت. علقه الفقير
محمد بن موسى بن إبراهيم بن عبد الرحيم بن علي بن حاتم بن عمر بن محمد بن يوسف بن أحمد بن محمد، من ولد
عبد الرحمن بن سعد بن عبادة سيد الخزرج، الأنصاري الحراني الشهير بابن الحبال الحنبلي، سبط سبط الشيخ
محمد بن قوام الصالحي، لطف الله تعالى بهم وعفا عنهم، في نهار السبت ثالث شهر رجب الفرد الأصب من شهور سنة ثلاث وتسعين وسبعمئة أحسن الله تقضيها.
* * *