ومتى صدق العبد بذلك خاف عقوبة المعصية; فإن
الحي مجبول على أنه يخاف ما يجوز وجوده من الضرر، فإذا استشعر أن المعصية سبب للضرر خاف، وهو يرجو مع ذلك السلامة من الضرر إذا أطاع، ولو لم يكن الرجاء مقرونا بما يجوز وجوده من النفع.
وإذا لم يقترن بالخوف رجاء لم يكن خوفا، وإنما هو يأس وقنوط، و
لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون [يوسف: 87]، ولا
يقنط من رحمة ربه إلا الضالون [الحجر: 56].
ومتى لم يقترن بالرجاء خوف لم يكن رجاء، وإنما هو أمن، ولا
يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون [الأعراف: 99].
ولهذا كان الرجاء والخوف واجبين، وهما موجب الوعد والوعيد، كما أن الطاعة والامتثال موجب الأمر والنهي.
[ ص: 141 ]
وهما متلازمان; فكل خائف راج مطيع، وكل مطيع خائف راج، كما أن كل أمر ونهي فهو مستلزم للوعد والوعيد، وكل وعد ووعيد فهو مستلزم للأمر والنهي.
فالمعرض عن الخشية والرجاء عاص، وقد يكون بعض ذلك ذنبا، وقد يكون فسقا، وقد يكون كفرا، ولذلك أمر الله بهما، وأثنى على أهلهما، وذم المعرضين عنهما، فقال تعالى:
ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت الله قريب من المحسنين [الأعراف: 55 – 56]، فأمر بدعائه، وأن يكون الداعي خائفا طمعا.
وقال تعالى لما ذكر دعاء زكريا
له، وإصلاحه زوجه له، قال:
إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين [الأنبياء: 90].
وقال تعالى:
تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا [السجدة: 16]، وقال:
أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه [الزمر: 9].
وقال عن الملائكة والنبيين، كالمسيح وعزير:
أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه الآية [الإسراء: 57].
[ ص: 142 ]
وقال:
إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله [البقرة: 218].
وقال الخليل:
والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين [الشعراء: 82].
وقال:
للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا [الحشر: 8]، وابتغاء ذلك هو طلبه، وهو الرجاء في العمل.
فإن الرجاء قد يكون من باب المحبة والإرادة والطلب الذي يتبع اعتقاد جواز وقوع المحبوب، والخوف من باب النفرة والكراهة والبغض الذي يتبع اعتقاد جواز وقوع المكروه.
ولهذا قيل: «من رجا شيئا طلبه، ومن خاف من شيء هرب منه»، أي: من رجاه بقلبه طلبه بنفسه، ومن خافه بقلبه هرب منه.
[ ص: 143 ]
وقد يكونان من باب الاعتقاد والظن، كما يقال: أخاف أن لا يقبل، وأرجو أن يتقبل مني، وأرجو أن لا يأمره بهذا، وأرجو أن لا يكون فلان مؤمنا، وأخاف أن يكون عدوا.
وفي الجملة، فالرجاء والخوف متضمن للتجويز في الاعتقاد الذي يكون ظنا وأقوى وأضعف، وللمحبة والبغض التابع لذلك الاعتقاد، فهو مشتمل على جنس الظن والإرادة معا.
ولهذا قال:
ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا [المائدة: 2]، وقال:
تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا [الفتح: 29]، وكذلك قوله تعالى:
يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه [الكهف: 28]، وقوله تعالى:
إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا [الإنسان: 9]، وقوله تعالى:
وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى [الليل: 19 – 20]، وقوله تعالى:
منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة [آل عمران: 152].
وكذلك ما في القرآن من المسألة والدعاء، ومن التوكل على الله والاستعانة به، وكل ذلك متضمن للرجاء.
وقد ذم الله تعالى من لا يرجو رحمة الله، فقال:
[ ص: 144 ] ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور [هود: 9]، وقال تعالى:
لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيئوس قنوط [فصلت: 49].
وقال عن يعقوب:
يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله الآية [يوسف: 87].
وقال تعالى عن
إبراهيم: قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون [الحجر: 56] لما قالت له الملائكة:
بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين [الحجر: 55 – 56].
وقال:
بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء [الفتح: 12]، وقال:
وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا الآيتين [الأحزاب: 10 – 11].
وكذلك ذم من لا يخشاه، وأمر بخشيته دون خشية الخلق، فقال:
إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني [البقرة: 150]، وقال تعالى:
فلا تخافوهم وخافون [آل عمران: 175]، وقال:
وإياي فاتقون [البقرة: 41]، وقال:
إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين [آل عمران: 175]، وقال:
اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون [المائدة: 3]، وقال:
ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم إلى قوله:
[ ص: 145 ] إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية [النساء: 77]، وقوله تعالى:
لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله [الحشر: 13].
وقال في التوراة:
يحكم بها النبيون إلى قوله:
فلا تخشوا الناس واخشون الآية [المائدة: 44].
وقال:
الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله [الأحزاب: 39]، وقال:
فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة [المائدة: 52]، وقال:
إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة [فاطر: 18]، وقال:
إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم [يس: 11]، وقال:
سيذكر من يخشى [الأعلى: 10]، وقال:
إنما أنت منذر من يخشاها [النازعات: 45].
وقال عن أهل الجنة:
إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين [الطور: 26].
وقال:
والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة [المؤمنون: 60]، وقال:
وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون [الأعراف: 154]، وقال:
ولمن خاف مقام ربه جنتان [الرحمن: 46]، وقال:
وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى [النازعات: 40 – 41]، وقال:
فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى [طه: 44]، وقال:
ذلك يخوف الله به عباده [الزمر: 16]،
[ ص: 146 ] وقال:
يخافون ربهم من فوقهم إلى قوله:
فإياي فارهبون [النحل: 50 – 51]، وقال:
واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده [لقمان: 33]، وقال:
من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب [ق: 33].