وكذلك لو قال في الخلع: هي طالق طالق، كان خلعا موجبا للبينونة؛ لأنه قيده بالعوض، فتكون فرقة بائنة، كما لو كان بغير لفظ الطلاق في أحد قولي العلماء، كما قد بسط في موضعه.
[ ص: 391 ]
وكذلك لفظ الحرية الذي يقولون: إنه صريح في العتق، من نوى به أنه عفيف غير فاجر، لم يقع به العتق، بل يقبل منه، لاسيما عند القرينة، كما لو قيل له: ما حال مملوكك هذا؟ وكيف دينه وخلقه؟
فقال: هو حر. فهذه القرينة تبين أنه أراد أنه عفيف، لم يرد إعتاقه، فلا يعتق، وإن قيل: هو صريح وقد وجد نفاذا.
وكذلك لفظ النكاح والتزويج، هما صريح في العقد، ثم إذا قال: أنكحتك أو زوجتك فلانة، ومع هذا فهو محتمل للخبر عن عقد ماض. وكذلك سائر صيغ العقود، إذا نوى ذلك كان محتملا، وإن كانت القرينة تدل على ذلك قبل منه.
وأيضا فلو قيل: زوجتك بهذه، فهو محتمل قرنتك بها، كما في قوله:
أو يزوجهم ذكرانا وإناثا . وهذا يراد باللفظ مع ما يدل على ذلك، كما لو جمع بين الصغار بين كل صغير وصغيرة في موضع قيل: زوج هذه بهذا وهذه بهذا، أي: اقرنها به.
وقد يقال: أنكحتك فلانة، بمعنى مكنتك من سبيها وأخذها، كما قال الشاعر:
ومن أيم قد أنكحتها رماحنا ... وأخرى على عم وخال
وكذلك لفظ الوقف، يراد به تحبيس الأصل، وقد يقال: وقفت هذا، أي وقفته في السوق لأبيعه. وكذلك ألفاظ الإيلاء، إذا قال: والله لا وطئت، فقد يراد: لا وطئتك برجلي، ولو أراد ذلك لم يكن موليا في الباطن، وفي قبوله في الحكم نزاع.
[ ص: 392 ]
فعامة الألفاظ الصريحة تكون كناية في معنى آخر، مع كون المحل قابلا لمعنى الصريح. فعلم أن هذه الدعوى باطلة، وإنما ذكرت في الظهار ليفرق بها، وليس هو فرقا صحيحا.
الوجه الرابع: أنه لو سلم أن الأمر كذلك، فلا ريب أن لفظ الظهار كان في عرفهم يراد به الطلاق، أو يحتمل أن يراد به الطلاق، فكان صريحا في الطلاق أو كناية فيه، والأرجح أنه كان صريحا فيه، فإنه إذا كان ظاهرا أوقعوا به الطلاق، ولم يسألوه عن نيته، فإن مقتضاه تحريم الوطء على التأبيد، والزوجة لا تكون كذلك، وسواء كان صريحا أو كناية فالشارع أبطل إيقاع الطلاق به. وإن قصدوه دون غيره من ألفاظ الصرائح والكنايات، فلا بد من فرق بينه وبين غيره لأجله فرق الشارع بينهما، وإلا فلم أبطل وقوع الطلاق بهذا اللفظ دون غيره من الألفاظ المحتملة؟ ولم جعل له حكما آخر غير وقوع الطلاق؟ فذلك المعنى إن كان مختصا بهذا اللفظ، وإلا قيس به ما كان في معناه، ومعلوم أن
قوله "أنت علي حرام" في معنى "أنت علي كظهر أمي"، فيجب أن يقاس به.
فإن قال هؤلاء: نحن نقيس به لفظ التحريم؛ لأنه في معناه.
قيل: وإن كان هذا في معناه، فالشارع إنما علل بكونه منكرا من القول وزورا، فيجب أن لا يقع الطلاق بقول منكر ولا بقول زور، وإن كان صاحبه قصد الطلاق. وهذا يقتضي أن لا يقع الطلاق بلفظ محرم.
والمطلق في الحيض مطلق بلفظ محرم، وهو منكر من القول، فيجب أن لا يقع به الطلاق، وكذلك المطلق ثلاثا بكلمة أو كلمات بدون رجعة أو عقد قد أتى بمنكر من القول، فيجب أن لا يقع به، وكلاهما أتى بزور، فإن الزور الكذب، وكلاهما اعتقد أنه يملك
[ ص: 393 ] ما أوقعه، وذلك زور وكذب، فلم يملكه الله إلا الطلاق المباح، وأما الحرام فلم يملكه إياه.
وفي الآية سؤال، وهو أن الله قال:
الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم ، كما قال في الآية الأخرى:
وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم . والمتظاهر ما قال: إن زوجته أمه، لكنه شبهها بها، وهو لم يقل: "ما هن مثل أمهاتهم"، بل قال: "ما هن أمهاتهم".
فيقال: المتظاهر مقصوده تحريم الوطء، وقوله "أنت علي كظهر أمي" معناه: وطؤك مثل وطء أمي، فمقصوده تشبيه الوطء بالوطء، وأن يكون وطؤها مثل وطء أمه، وذلك يقتضي أن تكون حراما، ووطؤها لا يكون مثل وطء أمه إلا إذا كانت من جنس أمه، وإلا فإذا تباينت الحقائق تباينت أحكامها، فكان موجب قولهم أن تكون الأزواج من جنس الأمهات، كما تكون أم الأب والأم من جنس الأم في التحريم والمحرمية، فبين الله تعالى أن هذا الجنس ما هو هذا الجنس، بل جنس آخر، فقال:
ما هن أمهاتهم ، وقال
وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم ، كما قال
وما جعل أدعياءكم أبناءكم . وهم لم يكونوا يقولون: هو مولود منه، بل جعلوه من جنس المولود، فجعلوا حكمه حكم المولود منه الذي هو الابن، فقال تعالى: هذا ما هو من جنس الابن، فلا يكون حاله حاله.