[ ص: 269 ] قاعدة
الاعتبار بموجب اللفظ والمعنى
[ ص: 270 ] قال شيخ الإسلام
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رضي الله عنه:
فصل
قاعدة:
إذا تكلم بلفظ العقد يظن أن معناه وموجبه في الشريعة شيئا، فتبين بخلافه، فالأصل في مثل هذا أنه لا يثبت فيه حكم المعنى الذي لم يقصده; وذلك لأن اللفظ يتبع المعنى، والمعنى هو المقصود.
ولهذا إذا عبر عن المعنى بأي لفظ دل على معناه انعقد به العقد، سواء كان اللفظ عربيا أو عجميا معربا، أو ملحونا، ولا يفرق بين العربي وغيره في ذلك.
لكن قد فرق بعض أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي nindex.php?page=showalam&ids=12251والإمام أحمد في النكاح بين لفظ العربي وغيره; لما فيه من شوب العبادة. ولكن هذا ضعيف، قد بسطنا الكلام على ضعفه في القواعد الكبار الفقهية الدمشقية.
ومعنى اللفظ هو ما يعنيه المتكلم، أي: يقصده ويريده. وذلك مشروط بالعلم به; فإن قصد الشيء إنما يصح إذا كان مشعورا به، فما لا يشعر به المتكلم لا يقصده، وكذلك الفاعل.
[ ص: 272 ]
لكن لو نوى باللفظ معناه عند أهله وهو لا يفهمه، كما لو تكلم بلفظ العجمي وهو لا يفهمه ونوى موجبه عند أهله، أو نوى موجب العربية من لا يفهمه، أو موجب الحساب من لا يفهمه - ففيه وجهان مشهوران، والأقوى في الحجة: أنه لا يصح; لأنه قصد ما لا يعرفه، وذلك لا يصح.
ولهذا لو أقر بمثل هذا، أو شهد بمثل هذا، لم يلزمه إقرار ولا شهادة.
وهذا من باب المخاطرة والقمار في الألفاظ; فإن حقيقته أني قصدت ما يفهمه غيري من هذا اللفظ كائنا ما كان. وهذا لا يصح.
وإذا كان المعنى هو المقصود المراد بلفظ العقد، فلفظ «البيع» ونحو ذلك معناه ومقصوده هو انتقال المبيع إلى المشتري، وانتقال الثمن إلى البائع، وتحصيل المقصود المراد هو إلى الشارع، فالصحيح ما ترتب عليه مقصوده وحصل به أثره، والباطل ما لم يترتب عليه مقصوده ولم يحصل به أثره.
فإذا كان قد عنى وقصد بلفظ العقد معنى، فرتبه عليه الشارع وحصله، كان العقد صحيحا، وإلا كان فاسدا.
وإذا كان المقصود بلفظ «البيع» حصول الملك من الطرفين، فإن حكم الشارع بحصول المقصود في بعض دون بعض، فيكون العقد صحيحا من وجه دون وجه، كما بيناه في غير هذا الموضع.
[ ص: 273 ]
فإذا كان هو لم يعرف أن ذلك المعنى هو المقصود المراد باللفظ لم يكن قاصدا له، فلا يكون قد عناه، فيبقى في حقه لفظا لا معنى له، فلا ينعقد به عقد، كما لو اعتقد أن لفظ «التحرير» المراد به العفاف دون العتق، فهذا لا يعتق به العبد في الباطن قطعا. ومتى شاع هذا العرف في العامة لم يكن اللفظ صريحا في حقهم.
ولو اعتقد أن معنى «الإعتاق» إعتاقه من شغل أو عمل ألزمه إياه، ولم يكن يفهم أن معناه التخليص من الرق مطلقا، لم يكن اللفظ في الباطن في حقه عتقا، وأما قبوله في الظاهر ففيه تفصيل.
ولو اعتقد أن «الوقف» معناه تسبيل المنفعة فقط، دون إخراج الرقبة من ملكه، لم ينعقد الوقف بمجرد لفظه في نفس الأمر.
ولو اعتقد أن لفظ «الطلاق» ليس معناه الفرقة الناجزة، ولكن معناه أنه إذا أوقعه في الحيض فإن الأمر يتأخر إلى الطهر، فإن شاء وقع الطلاق وإن شاء لم يقع، أو أنه إذا أوقعه في الطهر فإنه يتأخر إلى الحيض، فإن شاء وقع وإن شاء لم يقع لم يقع بهذا اللفظ طلاق منجز أو مؤخر بدون مشيئته; لأنه إذا لم يعلم أن هذا معنى اللفظ ومقصوده ومراده لم يقصد المعنى ولم يرده ولم يعنه، وإذا لم يقصده ولم يرده ولم يعنه كان لفظا بدون معنى.
[ ص: 274 ]
وليس هذا كطلاق الهازل; فإن الهازل قصد اللفظ عارفا بمعناه، واللفظ من آيات الله، فلم يكن له أن يستهزئ بآيات الله.
وقد بسطنا الكلام في ذلك، وبينا الفرق بين الهازل والمكره وخلع اليمين والمحلل ونحوهما في «بيان بطلان التحليل».
فإن المكره والمحلل قصدا اللفظ لأمر آخر غير معناه، هذا قصد دفع الضرر عن نفسه، وهذا قصد إعادة المرأة إلى المطلق، بخلاف الهازل فإنه لم يقصد معنى آخر غير حكم اللفظ.
وهذا الجاهل بمعنى اللفظ يشبه المكره، بل هو أقوى من المكره; فإن المكره عرف معنى اللفظ، وقصد اللفظ، لكن لمقصود آخر يعذر فيه، وهو دفع ضرر الإكراه، ولم يقصد معنى اللفظ وحكمه. وأما الجاهل فإنه قصد معنى آخر، ولم يقصد معنى اللفظ، ولا يمكن أن يقصده مع العلم به. ومن قال: يقع الطلاق بمثل هذا، فرأيه من جنس رأي من يوقع طلاق المكره ويمين المكره; نظرا إلى أنه قاصد للفظ مريد له، فأشبه الهازل.
ثم كلهم متفقون على أنه لو سبق لسانه إلى اللفظ بغير قصد لم يقع به شيء، ولو نوى باللفظ غير الطلاق، مثل أن ينوي: طالق من وثاق، أو من زوج كان قبلي، أو من نكاح سابق - لم يقع شيء في الباطن.
[ ص: 275 ]
فإن قيل: ما ينويه باللفظ لا بد أن يكون اللفظ محتملا له، بخلاف ما إذا نوى ما لا يحتمله اللفظ.
قيل: هذا صحيح، لكن هو إذا اعتقد أن اللفظ يحتمله، ونواه، كان كمن تكلم بلفظ يعتقد له معنى، وكان له معنى آخر، فلا يلزمه المعنى الذي لم يعلم أن اللفظ دال عليه، كما قد تقدم ذكره.
وهذه المسألة لها صورتان:
إحداهما: أن يقصد بلفظ «الطلاق» هذا المعنى الذي ليس هو معناه في العادة، معتقدا أن ذلك هو معناه فهذا ظاهر.
والثانية: أن يكون معتقدا أن ذلك هو معناه، ويتكلم به، غير مستحضر معنى من المعاني; إما لفرط الغضب أو غيره، فهذا أيضا إنما يحمل كلامه على ما يعتقده معناه; فإنه إنما يعني باللفظ ويقصد ما يعتقده معناه، لا يمكن أن يقصد ويعني ما لا يعلمه ولا يقصده، فيكون المعنى المعتاد لم يقصده ولم يعنه، فلا يكون قد أوقعه، فلا يقع.
* * *