وأما
الخوارج والمعتزلة الذين أنكروا شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل الكبائر من أمته، فنفوا الشفاعة بإذن الله وبغير إذنه، وهؤلاء ضلال، وإن كان ضلال الأولين أعظم؛ إذ ذلك الضلال شرك بالله، وهذا من البدع المحدثة في الإسلام. ومع هذا فقد صار كثير من المتأخرين المنتسبين إلى العمل والعبادة، يثبت نوعا من هذه الشفاعة التي أثبتها المشركون والنصارى، فصاروا أسوأ حالا من
الخوارج والمعتزلة من هذه الجهة، كما أن هؤلاء ونحوهم
[ ص: 82 ] يثبتون القدر الذي نفته
المعتزلة ونحوهم من
القدرية، فتكون بذلك خيرا منهم، لكنهم قد يحتجون به على الشرع، بل قد يلاحظونه، ويعرضون عن الأمر والنهي، ويجعلونه الحقيقة التي تدفع مقتضى الشريعة، وهي الحقيقة الكونية، فيصيرون بذلك مضاهين للمشركين الذين قالوا:
لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء .
ومعلوم أن هؤلاء المشركين شر ممن
جحد القدر من المعتزلة ونحوهم، فهؤلاء الذين يدفعون الأمر والنهي الشرعيين ناظرين إلى الحقيقة الكونية، ويثبتون الشفاعة التي أثبتها المشركون والنصارى، شر من
الخوارج والمعتزلة من هذا الوجه ومن هذا الوجه، فإنهم جمعوا بين الإشراك والبدع في العبادات وبين
الاحتجاج بالقدر.
وهذا حال المشركين الذين ذمهم الله في كتابه، فإنهم كانوا تارة يعبدون غير الله، وتارة يزعمون عبادة لم يشرعها، ويحرمون ما أحله، وتارة يحتجون بالقدر. وقد ذكر الله عنهم في سورة الأنعام والأعراف وغيرهما ما فيه عبرة للمعتبرين، فإنه سبحانه قرر في سورة الأنعام توحيده وعبادته وحده لا شريك له، وأنه هو الذي يدعى عند الشدائد، وهو الذي يكشف الضر وينزل الرحمة، كقوله تعالى:
قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون ، وقوله تعالى:
قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم [ ص: 83 ] وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون ، وقوله تعالى:
وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين .
وهذه الآية عامة في كل من أراد الله بعمله. ودعاؤهم بالغداة والعشي يتناول من صلى صلاة الفجر وصلاة الظهر والعصر، وليست هذه الآية مختصة بأهل
الصفة ولا نزلت فيهم، فإن هذه الآية نزلت
بمكة .
وكذلك الآية الأخرى التي في سورة الكهف:
واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا . فإن
سورة الكهف مكية أيضا باتفاق العلماء، والصفة إنما كانت
بالمدينة، لم تكن
بمكة، ولكن طلب
[ ص: 84 ] قوم من رؤساء المشركين من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يطرد المؤمنين الضعفاء والفقراء عنه، فأنزل الله هذه الآية، يأمره فيها بأن لا يطرد أحدا لأجل ضعفه أو فقره إذا كان مؤمنا يريد وجه الله، فإن الناس إنما يقربهم إلى الله الإيمان والتقوى، لا عبرة بالغنى ولا بالفقر.
وقد ذكر سبحانه ما يناسب هذه الآيات في سورة الأنعام إلى قوله:
قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون .
ثم إنه سبحانه قرر في السورة بعد التوحيد الرسالة والكتاب المنزل، وذكر ما ذكره من رسله صلوات الله عليهم، وذكر المعاد والثواب والعقاب، ثم إنه ختم السورة بذم حال المشركين وما حرموه وما شرعوه من الدين الذي لم يأذن به الله، فقال:
أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله إلى قوله تعالى:
سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء [ ص: 85 ] كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون .
فأخبر عن المشركين أنهم احتجوا فيما شرعوه من الدين وحرموه من الأشياء بالقدر، فقالوا:
لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء . قال تعالى:
كذلك كذب الذين من قبلهم أي كذبوا بأمر الله ونهيه وخبره الذي بعث به رسله، فإن هذا تكذيب منهم للشرع محتجين عليه بالقدر.
ثم قال:
قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون ، فبين أن
الاحتجاج بالقدر ليس بدليل على صحة قول المحتج، فإن القدر متناول لكل كائن، فالمحتج به لا علم عنده، إن يظن إلا ظنا، وهو في ذلك من الخارصين الحازرين الكاذبين .
وفي صحيح
nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم عن
عياض بن حمار nindex.php?page=hadith&LINKID=662117عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر به عن الله أنه قال: "خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا. وإن ربي قال لي: قم في قريش فأنذرهم، فقلت: أي رب إذا يثلغوا رأسي حتى يجعلوه خبزة. فقال: إني [ ص: 86 ] مبتليك ومبتل بك، ومنزل عليك كتابا لا يغسله الماء، تقرأه نائما ويقظان. فابعث جندا أبعث مثلهم، وأنفق أنفق عليك، وقاتل بمن أطاعك من عصاك".
وهذا الأصل مبين في الكتاب والسنة، فمن شرع دينا لم يأذن به الله، أو احتج بالقدر، وجعل الحقيقة الكونية معارضة للأمر والنهي الشرعيين فقد ضاهى هؤلاء المشركين.