[ ص: 278 ] وأما الفقهاء المعتبرون وسلف الأمة وأئمتها وجمهورها وجمهور متكلميها فعلى خلاف [هذا] القول،
وإثبات الحكمة والرحمة في خلقه وأمره، وإثبات لام كي في خلقه وأمره، كما دل على ذلك الكتاب والسنة مع المعقول الصريح، فاتفق على ذلك الكتاب والميزان والسلف والفقهاء. وجمهور الأئمة وأكثر طوائف الكلام ينكرون
قول المعتزلة المكذبين بالقدر، وقول هؤلاء
الجهمية المكذبين بالحكمة والرحمة، فلا يقولون بقول
القدرية ولا قول
الجهمية.
وعامة البدع الحادثة بالمعقول الفاسد في أصول الدين هي من قول هاتين الطائفتين:
الجهمية والقدرية، فالجهمية هم رءوس
الجبرية الذين أنكروا حكمته ورحمته،
والقدرية أنكروا قدرته ومشيئته، فأولئك أثبتوا له نوعا من الملك بلا حمد، وهؤلاء أثبتوا له [نوعا] من الحمد بلا ملك. والصواب ما عليه سلف الأمة وأئمتها وأهل السنة والجماعة: أنه سبحانه له الملك وله الحمد، بل له كمال الملك وله كمال الحمد.
وكلتا الطائفتين ناظرت الفلاسفة الدهرية في خلق الرب
[ ص: 279 ] وأفعاله وأقواله وحدوث العالم مناظرة فاسدة، تنبني على مقدمات مخالفة للشرع والعقل، وهم يظنون أنهم يوافقون الشرع والعقل، فلا للإسلام نصروا ولا للأعداء كسروا، وصار ما ابتدعوه في أصول الدين سببا لضلال طوائف ممن وافقهم وممن خالفهم، فإن المخالف لهم من الفلاسفة استطال بما ابتدعوه عليهم وعلى المسلمين، وظن أن ما قالوه هو الذي يقوله المسلمون، وصارت الكتب المصنفة في الكلام إنما يذكر فيها قولهم وقول الفلاسفة، ويجعل قولهم هو قول المسلمين، لم يأت فيه كتاب ولا سنة، ولا قاله أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أئمة المسلمين.
ولهذا عظمت الفتنة بالكتب المصنفة في الكلام والفلسفة، حتى آل الأمر بالأفاضل من أهلها إلى الحيرة والشك، إذ كان فيها من الأمور الإلهية مما يخالف المعقول الصريح والمنقول الصحيح ما يوجب الحيرة والشك لمن لم يعرف الهدى إلا منها، كما أصاب ذلك كثيرا من رؤساء النظار في الكلام المحدث
[ ص: 280 ] والفلسفة، حتى دخل من ذلك في كلام الفقهاء وأهل أصول الفقه ما دخل، فتجد الواحد منهم إذا بحث في الفقه بحث فيه بفطرته وإسلامه، معللا للأحكام بالعلل المناسبة، ذاكرا أن الله أمر بكذا لكذا، وخلق كذا لكذا، وفي موضع آخر ينكر هذا ويقول: لا يخلق ولا يأمر لعلة، واللام في ذلك لام العاقبة لا لام كي.
فهذا قول من أثبت القياس من نفاة الحكمة والتعليل في خلقه وأمره.